ومن الواضح أن ابن طفيل في إيراده الروايتين اللتين تفسران مولد حي بن يقظان، إنّما يجري على ما جاء في القرآن من أن الإنسان كجنس من أجناس الكائنات، قد جبل من الطين إلا أنه كأفراد لا يتولد من التقاء رجل بامرأة؛ ذلك أن هذه القصة إنما تعكس تطور الجنس البشري على الأرض، منذ خلق الله الإنسان إلى العصر الذي كان يعيش فيه ابن الطفيل، إذ من المستحيل أن يتطور الفرد الإنساني بهذه الطريقة، وبتلك السرعة، وعلى هذا النحو السلس الذي تطورت به حياة ابن يقظان في القصة، فيكتشف النار مثلًا، ويَعرفُ التّشريح والتفكير العلمي المنهجي، والتأمل في الكون، والإيمان بالله وبالآخرة، وبضرورة الأخلاق الفاضلة، وما إلى هذا بتلك البساطة وفي ذلك الزمن القصير.

فهي بهذا قصة رمزية؛ ولولا رَمزيتها لما قبلنا أن تقوم غزالة بإرضاع طفل بشري، أو تنظفه من وساخاته وفضلاته، أو تحميه من الآفات الطبيعية، والهوام والحشرات والزواحف التي تعج بها الغابات، أو تحمله على ظهرها من مكانٍ إلى مكان، ببساطة لأن هذا أمر مستحيل، وقد صب ابن طفيل في هذه القصة آراءه القائلة بعدم التعارض بين العقل والشرعية، أو بين الفلسفة والدين -كما سبق أن أومأنا- وهي فكرة كان يتبناها بعض الفلاسفة والمتكلمين المسلمين، إذ كانوا يقولون إن العقل الإنسان كافٍ وحده لوصول الإنسان إلى الحقيقة، بشأن وجود الله ومعرفة صفاته والإيمان بالآخرة. ومن ثم وجوب تحمل المسؤولية، واستحقاقه للحساب الإلهي، وما يترتب عليه من الثواب والعقاب.

وكانوا يفسرون الرسول في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (الإسراء: 15) بأنه هو العقل، وهذا التفسير يعكس شططًا في التفكير، إذ لا تساعد عليه اللغة العربية، ولا النصوص القرآنية والحديثية، ولا ريب أن نصوصًا قرآنية

طور بواسطة نورين ميديا © 2015