ما فيهما من حضارة بفتحهما، وحطموا كل ما وجدوه فيهما من صروح العلم والأدب والفن، ولم يُتَحْ لعلمائهما وأدبائهما وطن جديد يهاجرون إليه؛ بل نُفيت جماعة منهم إلى القسطنطينية، وبقيت جماعة في عقر ديارها خاملة، لا تستطيع أن تنتج علمًا ولا أدبًا، فقد فقدت حريتها، ولم تعد تجد ما تسد به رمقها، وبذلك انهارت الحياة العقلية والأدبية في مصر، لولا نشاط ضئيل ظل في الأزهر، وكان يحفه ظلام مطبق من الفقر والبؤس والحكم الظالم الغاشم.
وفي هذه الأثناء نزلت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت في مصر عام 1798، ومكثت نحو ثلاث سنوات، كانت جميعها جهادًا عنيفًا وصراعًا مريرًا قاسيًا بين الشعب المصري والمعتدين. ولم يُجْدِ نابليون نفعًا ما أنشأه من مجالس شورى سميت باسم الدواوين، ألفها من طبقة المثقفين الأزهريين ومن كبار الأعيان والتجار، وجعل لها حق البحث في بعض شئون الحكم، وخاصة الضرائب؛ فقد كانت مجالس صورية لتنفيذ مآربه الاستعمارية في السياسة والإدارة. وقد ظل الشعب المصري يقاومه ويثور ضده وضد حملته ثورات متعاقبة، بذل فيها الدماء وعزيز الفداء.
وكان لهذه المقاومة الباسلة وهذا الكفاح المرير أثرهما في نشأة الشعور القومي عند المصريين، وإحساسهم العميق بحقوقهم المشروعة في حكم بلادهم. فلما أقلعت الحملة عن ديارهم، وعادوا إلى حكم العثمانيين، رأوا أن من حقهم اختيار الوالي الجديد، واختاروا محمد علي، ووافقهم الباب العالي.
وقد اطلع الشعب المصري من خلال هذه الحملة على بعض وجوه الحياة الأوربية؛ فقد رأى المصريون أفرادها يتناولون حياتهم المادية بصور لم يكونوا يألفونها، سواء في أكلهم وشربهم، أو في لهوهم وما كانوا يقيمون من حفلات التمثيل والغناء والرقص والموسيقى، وكانوا يرون نساءهم يمشين متأبطات لأذرعهم -كما يقول الجبرتي في الجزء الثالث من تاريخه- "وهن حاسرات الوجوه، لابسات الفُسْتانات ومناديل الحرير الملونة، يَسْدلن على مناكبهن الطُّرَح