وأيدت أوربا بطباعتها العربية وجهود المستشرقين فيها هذه الحركة، فقد طُبعت هناك كتب عربية قديمة كثيرة، ووفدتْ على مصر، فرأى المصريون فيها -كما رأوا فيما طبع بين ظهرانيهم وتحت عيونهم- لغة عربية أخرى غير التي كانوا يعرفونها، ليس فيها سجع ولا إسراف في التكلف ولا إلغاز وتعمية؛ بل وجدوا فيها لغة بسيطة تحمل أفكارًا علمية وأدبية طريفة.
ولم تقف مطبعتنا العربية عند نشر الكتب القديمة والدواوين العباسية وإحيائها؛ بل أخذت تنشر في الناس الكتب الغربية التي يترجمها أعلام المصريين ممن حذقوا اللغات الأجنبية، وكانت كثرتها في النصف الأول من القرن الماضي كتبًا علمية، ولم تلبث أن زاحمتها في النصف الثاني الروايات والكتب الأدبية.
وهذان الطرفان من الكتب القديمة والكتب الأوربية هما اللذان تعاونا في إحياء العقل المصري، وبعثه في أثناء القرن السابق، وفي هذا القرن. ومما لا ريب فيه أن أصحاب الثقافة القديمة من المتون وشروحها والشعر الركيك المعقَّد قاوموا هذين الطرفين أو هذين العنصرين الجديدين؛ لأنهما يخالفان ما ألفوا من فكر وعلم ومن أسلوب مسجع معقد. ويمكن أن نركز أصحاب هذه الثقافة القديمة أو المأثورة في رجال الأزهر حينئذ؛ فإنهم عدوا الجديد الأوربي من بعض الوجوه مروقًا من الدين، كما عدوا الأساليب الأدبية المرسلة ضعفًا في اللغة وإسفافًا.
وبذلك وُجد عندنا في القرن التاسع عشر هذا الصراع الأدبي الطريف بين من يمكن أن نسميهم محافظين، ومن كانوا مجددين يطلبون ما عند الغرب وما عند العرب القدماء، ويسعون لمزواجة، من شأنها أن تغني الفكر المصري، وأن تطوِّع اللسان المعبر عنه لأدائه أداء سليمًا.
على كل حال، كانت المطبعة عاملًا خطيرًا في إيقاظ العقل المصري في أثناء القرن الماضي وتوجيهه إلى مُثل جديدة في اللغة والفكر. ونحن لا نستطيع أن نقف وقوفًا بينًا على خطر هذا العامل إلا إذا رجعنا النظر إلى الطريقة التي كان يُنْشَرُ بها الأدب قبل ظهور المطبعة؛ فقد كان الأدباء يعتمدون في ذلك على النَّسْخ باليد، وكان هذا النسخ يكلف أثمانًا باهظة، ولم يكن كل الناس يستطيعون