والحق أننا استطعنا أن نقيم لأنفسنا نهضة حقيقية، وكان عمادنا في ذلك اتساع بالتعليم، حتى نادى بعض مفكرينا بأنه ضرورة، وأن من الواجب أن يتمتع به كل مصري يتمتع بالهواء والماء.
وأصبح هذا التعليم يغزو القرى المصرية لا بسعيها إليه في المدن المجاورة؛ بل بنزوله في شوارعها وبين جدرانها، وهو تعليم يسري فيه هذا التيار الغربي؛ بل إننا نغلو حين نسميه بهذا الاسم، فلم يعد هناك تيار غربي بمعنى انفصالي، فقد اتحد هذا التيار مع التيار العربي الموروث، وأنتجا حياة عقلية جديدة كما أنتجا أدبًا جديدًا.
وفي أعلى هذا التعليم تتألق أشعة العلم والأدب وأضواؤهما في جامعاتنا المصرية المختلفة ممثِّلة هذا الرقي العلمي والأدبي الذي أصبناه، أو قل: الذي أحرزناه، فقد كنا قبل الأربعين سنة الأخيرة نشعر بأننا في حياتنا العقلية والأدبية نتقدم ونتأخر شأننا في حياتنا السياسية.
أما في هذه الأربعين سنة الأخيرة، فقد مضينا قُدمًا في مختلَف مناحي حياتنا السياسية والعقلية، وكان من مظاهر ذلك تنظيم حياتنا العلمية والأدبية عن طريق الجامعات التي أخذ علماؤنا وأدباؤنا فيها يسيغون كل ما هو عربي وكل ما هو غربي في نهم شديد للمتاع الفكري. وحتى الترجمة نُظِّمت فقامت عليها جمعيات مختلفة كلجنة التأليف والترجمة والنشر، وقامت عليها الحكومة ورعتها خير رعاية.
ولم نترجم فقط من الفرنسية أو الإنجليزية؛ بل ترجمنا بعض عيون الأدب من الألمانية والإيطالية والروسية. وطبيعي أن يتوج هذا المجهود بالثمرة المنتظرة؛ وهي إقامة أدب مصري إنساني، أقامته سواعد شوقي وشكري والعقاد والمازني ولطفي السيد وطه حسين وهيكل وتوفيق الحكيم وغيرهم ممن أحدثوا لنا هذا الأدب، فإذا هو لا يقف عند حدود بيئتنا المصرية وتراثنا القديم، ولا عند البيئة الغربية وتراثها القديم والحديث؛ بل تتسع هذه البيئة، فتصبح بيئة إنسانية كبرى، تشيع فيها الغايات السامية للأدب الحقيقي، وهي غايات الحق والخير والجمال.