ومن جهة ثانية أخذنا في التحضر، وأخذ ذوقنا يقترب من ذوق الغربيين.
وفي هذه الأثناء -أو في هذا الثلث الأخير من القرن التاسع عشر- كانت تهاجر إلى مصر صفوة من اللبنانيين والسوريين الذين تخرجوا في مدارس اليسوعيين والبعوث الدينية الأوربية والأمريكية المختلفة، وكانوا قد ضاقوا باضطهاد العثمانيين لهم، وكان منهم من ابتغى رزقًا في بلاد أخرى. على كل حال، كانوا يريدون أن يعيشوا معيشة كريمة، فيها اعتراف بحريتهم وبحقوقهم الفردية، فهاجروا إلينا، ووجدوا منا ما ابتغوه من حرية وإخاء ومساواة وعيش كريم.
ولم يلبثوا أن عملوا معنا في نهضتنا الأدبية، وكانوا قد سبقونا إلى العناية بالآداب الغربية في عقر ديارهم، ومرجع ذلك إلى البعثات الدينية التي علمتهم؛ فإنها لم تكن تعنَى مثل محمد علي بنقل العلم إلى سوريا ولبنان؛ بل كادت تقصر عنايتها على الحياة الأدبية الغربية، ومن ثَم كان اتصال هؤلاء المهاجرين بتلك الآداب أقوى من اتصال المصريين في هذه الحقب من الزمن، فهم سبقونا إلى الاتصال المنظم بالأدب الغربي، ولم يهتموا مثلنا أولًا بالعلم؛ إنما اهتموا به في زمن متأخر وبعد تأسيس الجامعة الأمريكية عندهم. وقد نهضوا بصحافتنا خير نهوض، وحمل إلينا سليم النقاش وغيره ما عرفوه من فن التمثيل الأوربي، فدعموا بذلك اتجاهنا نحو الآداب الأوربية.
وأخذ هؤلاء المهاجرون والمصريون جميعًا يعملون في حقل غربي جديد، وأقصد حقل الترجمة، ولا أريد ترجمة العلم الغربي، فمصر قد سبقت إليه منذ أوائل القرن؛ وإنما أريد ترجمة الآداب الأوربية بمعناها الواسع، فكان محمد عثمان جلال وغيره من المصريين يترجمون لموليير وغير موليير، وكان نجيب حداد وغيره من هؤلاء المهاجرين يترجمون لكورني وشكسبير وغيرهما من الغربيين، وترجم سليمان البستاني الإلياذة لهوميروس مزاوجًا فيها بين البحور العربية ومبقيًا على كل سماتها وخصائصها الملحمية.
وكثُرت حينئذ الترجمة للمسرحيات والقصص الغربية، حتى بلغت مئات،