ومتانتها، وكأن ما حدث في الشعر حدث نظيره في النثر، فقد عادت اللغة إلى حريتها وطلاقتها، ولم تعد ترزح تحت معوقات السجع والبديع.
وفي القطعة ما يدل على اتساع أفق محمد عبده، فهو يعرض مسألة الشورى، وأنها نظام عُرف عند الغربيين من المسيحيين عرضًا طريفًا من جهة الإسلام، وما جاء في نصوصه من إباحة الأخذ عن الأمم الأجنبية، ما دام فيما نأخذ مصلحة من مصالح الجماعة. ويقرر قاعدة كبرى هي جواز تغير الأحكام بتغير الزمان. وما يزال يناقش المسألة حتى ينتهي إلى أن الشورى واجبة. وتتردد في المقال اصطلاحات الفقهاء من كلمات الأصل والجواز والندب والوجوب، وهذا طبيعي لكاتب أزهري يبحث المسألة من الوجهة الدينية.
ونلقاه بعد ذلك في باريس على صفحات "العروة الوثقى" وقد اتسع تفكيره واشتعلت روحه، فهو ثائر ثورة عنيفة، يدعو إلى اتحاد المسلمين في بقاع الأرض ضد عدوان المستعمرين، ويحثهم على أن يلتزموا أصول دينهم ويدفعوا قوة الغرب الباطشة بقوة عزيمتهم وبما يتخذون من عُدة وسلاح. وأخذ يثبت أن الإسلام لا يتعارض مع المدنية والفكر العصر الحديث.
وحاول منذ نزوله في فرنسا أن يتعلم اللغة الفرنسية؛ ولكنه لم يتقنها إلا بعد عودته وبعد اشتغاله في مصر بالقضاء. وهو في هذه الفترة من حياته يحقق لنفسه ثقافة واسعة؛ فقد أمعن في قراءة الآداب الفرنسية، كما أمعن في قراءة آثارنا القديمة ذات الأسلوب الحر الطليق، وكوَّن لنفسه أسلوبًا قويًّا جزلًا، كثير المعاني والأفكار. ونراه يكتب مقالات ضافية في الرد على من يتهجمون على الإسلام مثل "هانوتو" الفرنسي وغيره، كما يكتب مقالات ورسائل في دعواته الإصلاحية، وخاصة في شئون الدين وتطيره من الخرافات. وكان يفسر القرآن الكريم فيحاول الوصل بين آياته وبين التقدم العقلي الحديث.
والحق أنه كان مفكرًا من طراز ممتاز، وإليه يرجع الفضل في تأسيس حركة التجديد الديني الذي نرى آثارها اليوم في العالم الإسلامي جميعه؛ إذ كان يرى العودة إلى منابع الدين الأولى، كما كان يرى أن يتخلص رجال الدين من