الأفغاني من مصر لما يؤجج من ثورة في النفوس، وأُقيل محمد عبده من وظيفته لاتفاقه مع جمال الدين في مبادئه، وخاصة أنهما كانا يطالبان بالإصلاح السياسي. غير أن مقاليد الحكم تحولت إلى رياض "باشا" وكان يعطف على محمد عبده، فأسند إليه تحرير "الوقائع المصرية" جريدة الحكومة الرسمية، فنهض بها مع طائفة من تلاميذه على رأسهم سعد زغلول، فلم يقف بها عند تقرير الوقائع والأخبار الحكومية؛ بل جعلها صحيفة إصلاحية تتناول بالنقد وزارات الحكومة، وتبث دعوات مختلفة إلى الحرية والبر بالفقراء والأعمال الخيرية وتطهير الإسلام من البدع والخرافات، كما تبث دعوات سياسية تهدف إلى خير الجماعة ومصلحتها الوطنية وقيام حكومة شورية.

ولما قامت الثورة العرابية كان من المناهضين لها في أول الأمر لما كان يخشى من عواقبها؛ ولكنه لم يلبث -حين رأى التدخل الأجنبي لإحباطها- أن انضم إليها وأصبح من زعمائها. ويقال: إنه هو الذي وضع صيغة اليمين التي أقسمها ضباط الجيش على رفض هذا التدخل، وهو الذي تولى حَلِفَهم. ولما أخفقت الثورة حوكم مع زعمائها، فحُكم عليه بالنفي ثلاث سنين خارج القطر، فقصد إلى بيروت، وتصدَّر فيها للتدريس، إلا أن أستاذه جمال الدين استدعاه إلى باريس، فلبَّى دعوته. وهناك أصدرا في مارس سنة 1884 صحيفة "العروة الوثقى" وأخذ محمد عبده يطلق منها قذائفه السياسية والإصلاحية إلى مصر والأقطار الإسلامية، وأقضَّ ذلك مضاجع إنجلترا وفرنسا، فقضتا على الصحيفة بعد صدور بضعة أعداد منها. وعاد إلى بيروت كما عاد إلى التدريس، فشرح "مقامات بديع الزمان الهمذاني" و"نهج البلاغة" وألف رسالته المشهورة في "التوحيد" أو علم الكلام وأصوله، وتفسير جزء "عم" وشرح البصائر في المنطق.

وتولى الوزارة رياض "باشا"، وكان يقدره حق قدره، فعمل على صدور العفو عنه، ويقال: إن الإنجليز عاونوه في ذلك، فعُفِي عنه وعاد إلى وطنه في سنة 1888، وتقلب في مناصب القضاء، حتى أصبح مستشارًا بمحكمة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015