المقالة:
ونحن نعرف الآن أن المقالة قالب قصير قلما تجاوز نهرًا أو نهرين في الصحيفة، ولم يكن العرب يعرفون هذا القالب؛ إنما عرفوا قالبًا أطول منه، يأخذ شكل كتاب صغير، وهو يسمونه الرسالة مثل رسائل الجاحظ. ولم ينشئوه من تلقاء أنفسهم؛ بل أخذوه عن اليونان والفرس، وأدوا فيه بعض الموضوعات الأدبية التي خاطبوا بها الطبقة الممتازة من المثقفين في عصورهم.
أما المقالة فقد أخذناها عن الغربيين، وقد أنشأتها عندهم ضرورات الحياة العصرية والصحفية، فهي لا تخاطب طبقة رفيعة في الأمة؛ وإنما تخاطب طبقات الأمة على اختلافها، وهي لذلك لا تتعمق في التفكير حتى تفهمها الطبقات الدنيا، وهي أيضًا لا تلتمس الزخرف اللفظي، حتى تكون قريبة من الشعب وذوقه الذي لا يتكلف الزينة، والذي يؤثر البساطة والجمال الفطري، ومن أجل ذلك لم يكد أدباؤنا يكثرون من كتابتها بالصحف في أواسط القرن الماضي -أو بعبارة أدق: في ثلثه الأخير- حتى اضطروا إلى أن ينبذوا لفائف البديع وثياب السجع وبهارجه الزائفة، التي كانت تثقل أساليب رفاعة الطهطاوي وتعوقها عن الحركة.
وسُرعان ما وُجدت عندنا المقالة السياسية الطليقة من أغلال السجع والبديع، وأخذت تخاطب الناس من قريب، وتتحدث إليهم في شئونهم الوطنية، وجعلت تؤثر فيهم تأثيرًا قويًّا، كان من نتائجه قيام الثورة العرابية، ومن أجل ذلك حين حوكم زعماء هذه الثورة حوكم معهم كتاب المقالة حينئذ، فاختفى عبد الله نديم، ونُفي محمد عبده، وكان قد أُبعد جمال الدين الأفغاني، ولم يصبهم ما أصابهم من ذلك، إلا بسبب ما كتبوا من مقالات سياسية. وهي تغلب عليها النزعة الخطابية عند النديم؛ إذ كان خطيبًا مفوَّهًا من خطباء الثورة العرابية، وكأنها كانت متنفسًا عنده لثورته وحدة عاطفته الوطنية، وهو يمسح عليها أحيانًا بسخرية مرة. وكان أحيانًا يُجْري مقالاته في جوانب اجتماعية إصلاحية ماسحًا عليها بدعابة حلوة. وكان يسود مقالات محمد عبده ضرب