-إن لم يكن مستحيلًا- على الشعب أن يتحول عنها، وحتى إن كان لا يحسنها فإنه ينبغي أن يسعى إلى إحسانها. وسبب ثالث، ولكنه لا يأتي من قبل السياسة ولا من قبل الدين، وإنما يأتي من قبل الأدباء أنفسهم، فإن كثرتهم رأت ألا تنزل إلى لغة الشعب، حتى يظل لها شيء من التفوق اللغوي الذي يفصل بينها وبين العامة. وربما كان من أهم الأسباب أيضًا أن هؤلاء الأدباء من صحفيين وكُتاب ومترجمين استطاعوا أن يؤدوا باللغة الفصيحة كل ما أرادوه من معانٍ وأفكار، فهي ليست قاصرة ولا عاجزة؛ بل أثبتوا أن فيها قوة لتحمُّل المعاني فضلًا عما فيها من براعة وجمال.
ولهذه الأسباب مجتمعة أخفقت في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن الدعوة إلى استخدام العامية في حياتنا الأدبية، واقتصرت على الصحف الفكاهية التي لا تزال تخرج بها إلى اليوم. وبالمثل أخفق الاتجاه المحافظ إلى أسلوب السجع والبديع، وانتصر الأسلوب الجديد، الأسلوب العربي المرسل، ووثب به الكُتاب وثبات واسعة في التعبير والتصوير.
ولا بد أن نذكر هنا "دار العلوم" التي أنشأها علي مبارك؛ لتساعد على تعليم هذا الأسلوب الذي ارتضته مصر؛ إذ لم يكن يعلم العربية سوى الأزهر، ولكن علماءه كانوا محافظين، وكانوا مرتبطين بأسلوب السجع والبديع من جهة، وبكتب النحو المعقدة من جهة ثانية، فرأى علي مبارك أن ينشئ هذه المدرسة؛ لتعلم المصريين العربية بأسلوب يتمشى والنهضة الحديثة، وقامت "دار العلوم" بما أريد منها في هذا الطور من التحرر في اللغة والانطلاق من الأسلوب المسجَّع المعقد، فكانت تُخْرج للمدارس المدنية طائفة من المعلمين ييسرون العربية على الطلاب، ويُعدونهم إعدادًا صالحًا لهذه الدورة الجديدة.
على كل حال، فَكَّ المصريون، أو بعبارة أدق: فكت كثرتهم أنفسها من أغلال أسلوب السجع التقليدي، ورجعت إلى الأسلوب المرسل تعبر به عن ذات نفسها، واكتفت من هذا الأسلوب بإطاره، أما نماذجه فقد نبذتها نبذًا، لا لأنها سيئة في نفسها؛ بل لأنها لا تلائم حياتها؛ إذ كانت نماذج شخصية