أنهم يعنون عناية شديدة بموسيقاهم، فاستقر ذلك في نفسه، وصدر عنه في شعره؛ ولكن لا تظن أنه نظم قصائد رمزية يجاري بها أصحاب هذا المذهب في شعرهم المجنح الغامض.
وليس من شك في أنه فهم المذهب الرومانسي بخير مما فهم المذهب الرمزي؛ لوضوحه وعدم غموضه والتوائه؛ ولكنه على كل حال أفاد من المذهب الرمزي هذه العناية الشديدة بموسيقاه وبالكلمات الشعرية، ولا نبالغ إذا قلنا: إنه وقع فريسة لهذه الكلمات، فقد استولت عليه بتموجاتها المختلفة وما ترسله من إشعاعات. وشعر كأن هذه كل مهمته، فما عليه إلا أن يطلق هذه الكلمات في تجربة تسمى قصيدة، فإذا هي كالشِّباك السحرية تصيد له المعجبين من كل مكان.
وقد يكون السبب في ذلك ضعف ثقافته الفكرية، فحاول ملء هذا الفراغ بطنين ألفاظه الخلابة التي تستهوي قارئه برنينها، وتؤثر على حواسه بإيقاعاتها. وهذه هي أروع خصائصه، فهو يؤلف القصيدة وكأنه يؤلف جوقات موسيقية، وهي جوقات لفظية، ليس فيها فكر عميق ولا استبطان في الإحساس؛ وإنما فيها هذا الشرر اللفظي الذي يجعل أشعاره -بل ألفاظه- تتوهج توهجًا.
وأول دواوينه التي نشرها "الملاح التائه"، وهو يصور منزعه الرومانسي، فأكثره في الحب والطبيعة، وقد ترجم فيه قصيدة البحيرة للامرتين أحد أصحاب هذا المنزع المشهورين في فرنسا، ووضع في مقدمة قصيدة له تسمى "الله والشاعر" عبارة من عباراته يناجي فيها ربه، وهو بذلك يضع في يدنا الدليل المادي على تأثره بنزعة لامرتين وشعره في الطبيعة والحب.
ويُكثر في هذا الديوان من ذكريات الشباب وتأثره بالطبيعة في دمياط وببلدة السنانية وجمال مشاهداته في بحيرة المنزلة وما رآه هناك من العراك بين البر والبحر، ومن خير قصائده في ذلك "على الصخرة البيضاء"، وهو في كل قصيدة يذيع حيرة حُلوة، فهو تائه في الكون ضال في مجالي الطبيعة. وعلى الرغم من بساطة تأملاته ووضوح أفكاره -فوجهها دائمًا مكشوف- نجد