فقد تغيَّرت الفتيا بعد فعل الحاكم، وليس هذا من باب عدم النقض، لأن النقض إِنما هو للحكام. وأمَّا قولُ العالمِ: لك الرجوعُ، ليس لك الرجوع، إِنما هو فتيا.
ونظائرُ هذه المسائل كثيرةٌ في المذهب جداً. وإِنما قَصدتُ بهذه النبذةِ التنبيهَ على المطلوب، وأنَّ المسألةَ - فيما أظنُ - مجمَعٌ عليها، وكيف يمكنُ الخلافُ فيها وبقاءُ الفُتيا بعد الحكم؟
وقد تقدَّم (?) أنَّ الله تعالى استناب الحُكَامَ في إِنشاء الأحكام في خُصوصيات الصور في مسائل الخلاف، فإِذا حكَمَ الحاكم بإِذْنِ الله تعالى لَهُ، وصح حكمُه عن الله تعالى: كان ذلك نصاً وارداً من الله تعالى على لسان نائبه الذي هو نائبُه في أرضه، وخليفةُ نبيّه في خصوص تلك الواقعة، فوجَبَ حينئذٍ إِخراجهُا من مذهب المخالِفِ في نوع تلك المسألة.
فإِنَّ الدليل الشرعي الذي وجدَه المخالفُ في ذلك النوع عامٌ فيه، وهذا النصُّ خاص ببعض أفراد ذلك النوع، فيَتعارضُ في هذا الفرد من هذا النوع دليل خاصّ وهو حكمُ الحاكم، ودليلٌ عامٌ وهو ما اعتقده المخالِف في جملة النوع، فيُقدَّمُ الخاصُ على العام كما تَقرَّر في أصول الفقه.
وهذا هو السرُّ في أنَّ الحكم لا يُنقَض، لا ما يعتقده بعضُ الفقهاء من أنَّ النقض إِنما امتنَع لئلا تنتشرَ الخصومات، فإِنَّ ما تقدَّم شَهدَتْ له قاعدةٌ أصولية، وما ذكروه لم يَشهد له قاعدة أصولية. والمعضودُ بالشهادة أَولى، وإِن سلمنا صِحَّتَه فيَتعاضَدُ هو والمشهودُ له، لأن المَدَاركَ قد تَجتمع، إِلَّا أنه لا ينبغي أن يُلغَى ما شهدَتْ له القواعدُ إِلَّا لمعارضٍ أرجحَ منه.