فَإِنْ قِيلَ: لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ الْبَيَانِ مُطْلَقٌ (?) فَحَمْلُهُ عَلَى الْبَيَانِ التَّفْصِيلِيِّ يَكُونُ تَقْيِيدًا لَهُ، وَتَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مُمْتَنِعٌ.
قُلْنَا: وَإِذَا كَانَ مُطْلَقًا، فَالْمُطْلَقُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى جَمِيعِ صُوَرِهِ، وَإِلَّا كَانَ عَامًّا لَا مُطْلَقًا، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ إِذَا عَمِلَ بِهِ فِي صُورَةٍ، فَقَدْ وَفَّى بِالْعَمَلِ بِدَلَالَتِهِ.
وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَلَا يَخْفَى أَنَّ تَنْزِيلَ الْبَيَانِ فِي الْآيَةِ عَلَى الْإِجْمَالِيِّ دُونَ التَّفْصِيلِيِّ يَكُونُ تَقْيِيدًا لِلْمُطْلَقِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ.
وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِتَنْزِيلِهِ عَلَيْهِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبَيَانُ الْإِجْمَالِيُّ وَالتَّفْصِيلِيُّ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ (ثُمَّ) مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَأْخِيرِ بَيَانِ كُلِّ الْقُرْآنِ ضَرُورَةَ عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى الْكُلِّ (?) عَلَى مَا سَبَقَ.
وَذَلِكَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ.
وَإِذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا فِي مَجَازِهَا وَهُوَ حَمْلُهَا عَلَى مَعْنَى (الْوَاوِ) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} فَإِنَّ (ثُمَّ) هَاهُنَا بِمَعْنَى (الْوَاوِ) وَلِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الرَّبِّ شَاهِدًا، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَاهِدًا.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} وَ (ثُمَّ) لِلتَّأْخِيرِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّفْصِيلِ بَيَانُ الْمُرَادِ مِنَ الْمُجْمَلِ وَالظَّاهِرِ وَالْمُسْتَعْمَلِ فِي غَيْرِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ " أُحْكِمَتْ " أَيْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَفُصِّلَتْ فِي الْإِنْزَالِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} وَأَرَادَ بِهِ: بَيَانُهُ لِلنَّاسِ.