الْمَسْأَلَةُ الْأَوْلَى
اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ؟ (?) فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ: إِنَّهُ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِهِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبَّدًا بِهِ، وَجَوَّزَ الشَّافِعِيُّ فِي رِسَالَتِهِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ قِطْعٍ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي أُمُورِ الْحُرُوبِ دُونَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ ذَلِكَ عَقْلًا وَوُقُوعُهُ سَمْعًا.
أَمَّا الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ: فَلِأَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَعَبَّدَهُ بِذَلِكَ وَقَالَ لَهُ: " حُكْمِي عَلَيْكَ أَنْ تَجْتَهِدَ وَتَقِيسَ " لَمْ يَلْزَمْ عَنْهُ لِذَاتِهِ مُحَالٌ عَقْلًا، وَلَا مَعْنَى لِلْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ سِوَى ذَلِكَ. (?) وَأَمَّا الْوُقُوعُ السَّمْعِيُّ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} أَمْرٌ بِالِاعْتِبَارِ عَلَى الْعُمُومِ لِأَهْلِ الْبَصَائِرِ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَجَلُّهُمْ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ دَاخِلًا فِي الْعُمُومِ، وَهُوَ دَلِيلُ التَّعَبُّدِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ عَلَى مُنْكِرِيهِ.
وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}