وهو ما عناه أحد الزهاد عندما قال: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من اللذة والنعيم لجالدونا عليه بالسيوف.
وهنا ندرك من المنتصر ومن المنهزم، وأن الانتصار والهزيمة أبعد معنى مما يراه الناس في الظاهر، بل هناك حقائق قد لا تدرك بالعيون، وصدق من قال:
اصبر على مضض الحسو د فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل نفسها ... إن لم تجد ما تأكله
5 - أن ثبات الداعية على مبدئه، هو انتصار باهر، وفوز ساحق، حيث يعلو على الشهوات والشبهات، ويجتاز العقبات بشجاعة وثبات، بل إنه لا يمكن أن يتحقق الانتصار الظاهر إلا بعد تحقق هذا الانتصار، فإبراهيم، عليه السلام، وهو يلقى في النار كان في قمة انتصار، (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ) [سورة الصافات، الآيتان:97،98].
والإمام أحمد -رحمه الله- عندما ثبت على مبدئه في محنة القول بخلق القرآن، ورفض الاستجابة لجميع الضغوط ومحاولات التراجع كان في قمة انتصاره.
وأصحاب الأخدود وهم يلقون في النار، ولا يقبلون المساومة على دينهم، ويفضلون الموت في سبيل الله كانوا هم المنتصرين، (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [سورة البروج، الآية:8].
ونجد هذا المعنى من معاني الانتصار في الحديث عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنَا: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» (?)