فنفى عن نفسه أن يكون ملكا، مع كونه - صلى الله عليه وسلم - ذا سلطان وملك، ولهذا ذكّر الرجل بأنه ابن امرأة كباقي النساء، ليعيد لهذا الإنسان شعوره الطبيعي بإنسانيته، وليزول عنه الخوف والرهبة، التي اختزنتها ذاكرته عن الملوك وسطوتهم!
إنه حالة من العبودية التي تبذل بسببها الشعوب طاعتها بكل هدوء ووداعة للملوك والطغاة، كوداعة قطيع الأغنام لرعاتها، لا حبا ولا احتراما بل خشية وعبودية، كما قال لوبواسييه (لا أفهم كيف أمكن هذا العدد من البلدان والأمم أن يحتملوا طاغية واحدا لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه، ولا كان يستطيع إذاءهم لولا إيثارهم الصبر عليه بدل مواجهته، فترى الملايين من البشر يخدمون في بؤس، وقد غلت أعناقهم دون أن ترغمهم على ذلك قوة أكبر منهم، وإنما سحرهم مجرد الاسم الذي ينفرد به الطاغية، وكان الأولى بهم ألا يخشوا جبروته فليس معه غيره، ولا أن يعشقوا صفاته فما يرون منه إلا خلوه من الإنسانية، إن ضعفنا نحن البشر كثيرا ما يفرض علينا طاعة القوة! أي تعس هذا! أي رذيلة هذه! أن نرى عددا لا حصر لهم من البشر لا أقول يطيعون بل يخدمون، ولا أقول يُحكمون بل يستعبدون، لا ملك لهم ولا أهل، بل حياتهم نفسها ليست ملكا لهم، ويحتملون السلب والنهب وضروب القسوة، لا من جيش أجنبي ينبغي عليهم الذود عن حياضهم ضده، بل من واحد لا هو هرقل ولا شمشون، بل هو في أكثر الأحيان أجبن من في الأمة، وأكثرهم تأنثا! ومع ذلك فهذا الطاغية لا يحتاج إسقاطه إلى محاربته وهزيمته، بل كاف الامتناع عن طاعته، فالشعوب هي التي تترك القيود تكبلها، أو قل تكبل نفسها بنفسها). (?)
وتزداد الخطورة حين تلبس هذه العبودية لبوس الدين، وتصبح باسم الله، فهنا يكون الأمر قد بلغ الغاية القصوى من الانحراف بالفطرة الإنسانية السوية، ليتجاوز الأمر طاعة الملوك والعبودية لهم، إلى المحبة والإخلاص في هذه الطاعة لتكون لهم وحدهم، وخالصة لهم!