ومع ذلك، ولأنَّ وسيلة الإحتشاد للتظاهر، مؤثِّرة في التغيير الإصلاحي، فقد استعملت في تاريخ أمّتنا الإسلامية، بالطبيعة التي أودعها الله في السنن الإجتماعية البشرية، أنَّ الناس تجتمع فيما تشترك فيه، وتستعمل اجتماعها في تحقيق أهدافها، ولهذا أُسِّست النقابات، والاتحادات، والأحزاب، ونحوها من التجمَّعات وجعل في يدها وسائل تمكنها من نيل حقوقها بقوة الدستور، في كلّ دول العالم المتحضّر، التي ترفض الاستبداد، وتترفَّع عن الصيغ المتخلّفة للحكم!
ومن الأمثلة على ما ذكرته من استعمال وسائل الاحتجاج الجماعي في تاريخ أمّتنا، ما في المنتظم للإمام ابن الجوزي رحمه الله قال _ بعدما ذكر انتشار المفاسد في بغداد آنذاك _: (واجتمع الحنابلة في جامع القصر من الغد، فأقاموا فيه مستغيثين، وأدخلوا معهم الشيخ أبا إسحاق الشيرازي وأصحابه _ أي فقهاء الشافعيّة _ وطلبوا قلع المواخير، وتتبع المفسدات، ومن يبيع النبيذ، وضرب دراهم المعاملة بها عوض القراضة، فتقدم أمير المؤمنين بذلك، فهرب المفسدات، وكبست الدور، وارتفعت الأنبذة، ووعد بقلع المواخير، ومكاتبة عضد الدولة برفعها، والتقدم بضرب دراهم يتعامل بها، فلم يقتنع أقوام منهم بالوعد، وأظهر أبو إسحاق الخروج من البلد فروسل برسالة سكتته) (?)
فهذه مظاهرة، واعتصام، نظمهما علماء الحنابلة، والشافعية معهم، لحمل السلطة على تتبّع الفساد، فنجحت، وآتت أكلَها، ولم ينكرها أحدٌ من العلماء، إذ كيف ينكر فقيه وسيلة اجتماعية لانص على تحريمها، ومع ذلك تفضي إلى مصلحة شرعية؟!!
ومما ورد في تاريخنا أيضا من غير نكير من العلماء، ما ذكره ابن الجوزي في المنتظم أيضا قال:"واجتمع في يوم الخميس رابع عشر المحرم خلق كثير من الحربية، والنصرية، وشارع دار الرقيق، وباب البصرة، والقلائين، ونهر طابق بعد أن أغلقوا دكاكينهم، وقصدوا دار الخلافة وبين أيديهم الدعاة والقراء وهم يلعنون أهل الكرخ واجتمعوا وازدحموا على باب الغربة، وتكلموا من غير تحفظ في القول، فراسلهم الخليفة