ثُمَّ الرَّشِيدُ، ثُمَّ الْمَأْمُونُ، فَآخِرُ مَنْ جَلَسَ لَهَا الْمُهْتَدِي حَتَّى عَادَتِ الْأَمْلَاكُ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا.
وَقَدْ كَانَ مُلُوكُ الْفُرْسِ يَرَوْنَ ذَلِكَ مِنْ قَوَاعِدِ الْمُلْكِ وَقَوَانِينِ الْعَدْلِ الَّذِي لَا يَعُمُّ الصَّلَاحُ إلَّا بِمُرَاعَاتِهِ، وَلَا يَتِمُّ التَّنَاصُفُ إلَّا بِمُبَاشَرَتِهِ. وَكَانَتْ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حِينَ كَثُرَ فِيهِمُ الزُّعَمَاءُ، وَانْتَشَرَتْ فِيهِمُ الرِّيَاسَةُ، وَشَاهَدُوا مِنَ التَّغَالُبِ وَالتَّجَاذُبِ مَا لَمْ يَكْفِهِمْ عَنْهُ سُلْطَانٌ قَاهِرٌ، عَقَدُوا حِلْفًا عَلَى رَدِّ الْمَظَالِمِ وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ، وَكَانَ سَبَبُهُ مَا حَكَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَمَنِ مِنْ بَنِي زُبَيْدٍ قَدِمَ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا بِبِضَاعَةٍ، فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، وَقِيلَ: إنَّهُ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ، فَلَوَى الرَّجُلُ بِحَقِّهِ، فَسَأَلَهُ مَالَهُ أَوْ مَتَاعَهُ فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ، فَقَامَ عَلَى الْحَجَرِ وَأَنْشَدَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ
"مِنْ الْبَسِيطِ":
يال قُصَيٍّ لِمَظْلُومٍ بِضَاعَتُهُ ... بِبَطْنِ مَكَّةَ نَائِيَ الدَّارِ وَالنَّفَرِ
وَأَشْعَثٍ مُحْرِمٍ لَمْ تُقْضَ حُرْمَتُهُ ... بَيْنَ الْمَقَامِ وَبَيْنَ الْحِجْرِ وَالْحَجَرِ
أَقَائِمٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ بِذِمَّتِهِمْ ... أَوْ ذَاهِبٌ فِي ضَلَالٍ مَالُ مُعْتَمِرِ
ثُمَّ قَيْسُ بْنُ شَيْبَةَ السُّلَمِيُّ بَاعَ مَتَاعًا عَلَى أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ فَلَوَاهُ وَذَهَبَ بِحَقِّهِ، فَاسْتَجَارَ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي جُمَحٍ فَلَمْ يُجِرْهُ، فَقَالَ قَيْسٌ مِنَ الرَّجَزِ:
يال قُصَيٍّ كَيْفَ هَذَا فِي الْحَرَمْ
...
وَحُرْمَةِ الْبَيْتِ وَأَحْلَافِ الْكَرَمْ
أُظْلَمُ لَا يُمْنَعُ عَنِّي مَنْ ظَلَمْ
فَأَجَابَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ1 "مِنْ الْبَسِيطِ":
إنْ كَانَ جَارُكَ لَمْ تَنْفَعْكَ ذِمَّتُهُ ... وَقَدْ شَرِبْتَ بِكَأْسِ الذُّلِّ أَنْفَاسَا
فَأْتِ الْبُيُوتَ وَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا صَدَدًا ... لَا تَلْقَ تَأْدِيبَهُمْ فُحْشًا وَلَا بَاسَا