فأخبر -تبارك وتعالى- عن كل جارحة من الجوارح الأربع بما هي مخصوصة به عن غيرها من المنافع، وجعل السمع من خصائص الآذان، والبصر من خصائص الأعين، فإن كان ابن محمود يشاهد بأذنيه فذلك من خوارق العادات ومما حصل له بعد توسعه في العلوم والفنون.
الوجه الثاني: أن يقال: إن حكام المسلمين في القرون الثلاثة المفضلة كان عددهم خمسة وثلاثين، وكثير منهم لا ينطبق عليهم ما جاء في حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنهما- فقد جاء في بعض الروايات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كلهم تجتمع عليه الأمة»، وبهذا يخرج خلفاء بني العباس كلهم؛ لأن الأمة لم تجتمع على أحد منهم، ويكون هشام بن عبد الملك هو آخر الذين اجتمعت عليهم الأمة، وأما عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود الشهيد، وصلاح الدين الأيوبي، فقد كانوا في القرن السادس، وليسوا من قريش، ولم تجتمع الأمة عليهم، بل كان أكثر بلاد المسلمين تحت ولاية غيرهم، فذِكرهم مع الخلفاء لا وجه له.
الوجه الثالث: أن يقال: إنما كان يعرف عموم العدل في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم-، وكذلك في خلافة عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى-، فأما غيرهم فقد كانوا يستأثرون بالأموال ويضعونها في غير مواضعها، ومنهم من يصادر أموال الناس ويأخذها لنفسه أو يعطيها لغيره، ولا يعرف عن أحد بعد الخلفاء الأربعة الراشدين أن عدله طبق مشارق الأرض ومغاربها سوى عمر بن عبد العزيز، وأما المهدي الذي يخرج في آخر الزمان فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدة أحاديث صحيحة أنه يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، وأخبر في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أنه يعمل بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن الإسلام يلقي بجرانه إلى الأرض، فهذا هو العدل الذي يطبق مشارق الأرض ومغاربها، لا ما زعمه ابن محمود فيمن سماهم من الملوك الماضين.
وأما قوله: هو مجهول في عالم الغيب.
فجوابه: أن يقال: قد كرر ابن محمود هذه الكلمة في عدة مواضع من رسالته، وقد تقدم الجواب عنها في أول الكتاب وفي أثنائه فليراجع (?).