سادساً: قد يثبت الحُكْم بنصِّ الكتاب دون أن يتعرَّض لمناطه نصَّاً ولا إيماءاً, فيُجْتَهَد حينئذٍ في استخراجه بأحد المسالك الاجتهادية , كالمناسبة أو السَّبْر والتقسيم أو الدوران.
ومثاله: تحريم الخمر في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] فالآية نصٌّ صريحٌ على تحريم الخمر، ولم يتعرَّض النصُّ لبيان عِلَّة الحُكْم لا بصريح لفظٍ ولا بإيماء، فيستخرج المجتهد وصفاً ظاهراً منضبطاً وهو " الإسكار "، يحصل من ترتيب الحُكْم عليه مصلحة المحافظة على العقول، ولا يجد غيرَه من الأوصاف الصالحة للعِلِّية مثلَه ولا أولى منه، فكونه سائلاً أو بلون كذا أو بطعم كذا كلها أوصافٌ غير ملاءمةٍ للتحريم، فيعيِّن المجتهدُ وصفَ " الإسكار " مناطاً لحُكْم التحريم، ويستدِلُّ على ذلك بإظهار ملاءمته للحُكْم، وهو كون وصف "الإسكار " يحصل من ترتيب الحُكْم عليه جلب مصلحةٍ وهي حفظ العقول من الاضطراب، ولا يوجد وصفٌ غيرُه مثلُه ولا أولى منه في محلِّ الحكم (?)
سابعاً: من ضوابط تحقيق المناط الموازنة بين المصالح والمفاسد؛ لأن الغرض من الاجتهاد في تحقيق المناط موافقة قصد الشارع في الأحكام , وهذا يستلزم معرفة مراتب المصالح والمفاسد في الشرع , ويُعْتَبر الكتاب هو منبع العلم بالمصالح والمفاسد ومراتبها؛ لأن " معظم مقاصد القرآن الأمر باكتساب المصالح وأسبابها، والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها " (?).
وإذا كان الأمر كذلك؛ " لزم ضرورةً لمن رام الاطلاع على كليَّات الشريعةـ وطمع في إدراك مقاصدها، واللحاق بأهلها، أن يتخذه - أي: القرآن الكريم - سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مرِّ الأيام والليالي؛ نظراً وعملاً" (?).