وقد يحدث بينها من الاجتماع والتعارض ما يقتضي الاجتهاد في الترجيح بينها، ولاسيما في الأزمنة المتأخرة التي اختلط فيها كثيرٌ من المفاسد بالمصالح، فلا يسع المكلَّفَ في كثيرٍ من الأحيان تحقيقُ مصلحةٍ مشروعةٍ إلا مع التلبُّس بمفسدةٍ عارضة.
قال ابن تيمية: " وتمام الورع أن يعلم الإنسانُ خيرَ الخيرين وشرَّ الشرَّين، ويعلم أنَّ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعيَّة والمفسدة الشرعيَّة فقد يَدَعُ واجباتٍ ويفعل محرَّماتٍ، ويرى ذلك من الورع، كَمَنْ يَدَعُ الجهادَ مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك من الورع .. " (?).
والمراد بهذا الضابط: المقابلة بين المصالح والمفاسد المتعارضة في محلٍّ واحد، والترجيح بينها أثناء الاجتهاد في تعيين مصالح الأحكام في الأحوال والأشخاص المختلفة.
وهو فقهٌ دقيقٌ يحتاج إلى مزيد اعتناءٍ من المجتهد في تحقيق مناطات الأحكام، وإلا أفسد المجتهدُ باجتهاده أكثر مما يصلح.
قال ابن تيمية: " والمؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة، ومراتبها في الكتاب والسُّنَّة، كما يعرف الخيرات الواقعة، ومراتبها في الكتاب والسُّنَّة، فيفرِّق بين أحكام الأمور الواقعة الكائنة والتي يراد إيقاعها في الكتاب والسُّنَّة، ليقدِّم ما هو أكثرُ خيراً، وأقلُّ شرَّاً على ما هو غيره، ويدفع أعظم الشرَّين باحتمال أدناهما، ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما، فإن لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الدِّين لم يعرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومن عَبَدَ الله بغير عِلْمٍ كان ما يفسد أكثر مما يصلح " (?).
والأدلة على اعتبار الشارع الترجيح بين المصالح والمفاسد المتعارضة كثيرةٌ، منها: