ثم إنَّه كثير من المتأخّرين من أصحابه من ينكر هذه الأمور، كما ينكرها فروع الجهمية، ويجعل ذلك هو السنة، ويجعل القول الذي يخالفها، وهو قول مالك وسائر الأمة السنة هو البدعة، ثم إنه مع ذلك يعتقد في أهل البدعة ما قاله مالك، فبدّل هؤلاء الدين فصاروا يطعنون في أهل السنة"1.
وقول الإمام مالك رحمه الله الذي هو موضوع هذه الدراسة ناله شيء من هذا الذي سبق الإشارة إليه، حيث فُهم منه أمورٌ لم يُرِدْها رحمه الله، وذلك من قِبل من تأثّر بالمناهج الكلامية والطرق الفلسفية، فإنَّ مثل هؤلاء يأتون إلى أقوال الأئمة بل إلى نصوص القرآن والسنة وهم يحملون تصوُّرات مسبقة وعقائد راسخة لا تمتُّ إلى الحق بصلة، ثم يحاولون جاهدين صرف النصوص إلى عقائدهم وحملها على أهوائهم بطرُقٍ متكلَّفة، ورحم الله الإمام ابن القيم إذ يقول: "وما أكثر ما ينقل الناس المذاهب الباطلة عن العلماء بالأفهام القاصرة، ولو ذهبنا نذكر ذلك لطال جداً، وإن ساعد الله أفردنا لها كتاباً"2.
وقد ظنَّ هؤلاء أنَّ طريقة الإمام مالك رحمه الله وغيره من أئمة السلف هي مجرّد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لمعانيها بمنزلة الذين قال الله فيهم {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} 3 وسبب ذلك هو اعتقاد هؤلاء أنَّ النصوص لم تدل على صفة حقيقية لله عز وجل، لأنَّ ثبوتها يلزم منه بزعمهم التشبيه، فحملتهم هذه الظنون الفاسدة والاعتقادات المنحرفة إلى تحريف أقوال الأئمة رحمهم الله.