الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
تعتبر اللغة بصفة عامة الوعاء الذي يحتضن ويحمل العلم، ويُنْتَقَلُ به من مكان إلى مكان، ومن زمن لآخر، ولولا نعمة اللغة التي امتنّ الله بها على عباده، لما توارثت الأمم حضارات غيرها، واستفادت من عِبَرِ الأحداث وما تفتقت عنه عقول العقلاء في كل فن وعلم.
وخصت اللغة العربية من بين لغات العالمين بخصائص انفردت بها عن غيرها، سَمَتْ بها عن لغات الدنيا، وأصبحت بينها كالقمر بين الكواكب تتضاءل الأنوار من حولها، وكأنها القطب والكل في فلكها يدور.
فهي لغة القرآن الكريم، ولغة خاتم الأنبياء والمرسلين، تغيرت اللغات واندرست أخرى، وهي ثابتة في نمو وازدهار، تأثرت بالفصحاء في جمال تركيب الكلام وحسن البيان، وأثرت في البلغاء، فأمدتهم بأجمل الكلمات وأفصح الألفاظ، حتى وسعت كتاب الله لفظاً وغاية، وما ضاقت عن آية به وعضاة.
وإذا لم يكن للعرب تمدن مادي قديم، فإن مدنيتهم قد ظهرت في عنايتهم بلغتهم، حتى كان يندر من يلحن بينهم، ثم أصبح اللحن مثلبة في لسان الفتى.
وبهذه اللغة صاغ العرب الحِكَمَ والأمثال، ونظموا الأشعار وتحدثوا بأعذب العبارات، وأجمل الألفاظ، متأثرين بلغتهم العربية التي صنعت فيهم التمدن الفكري والذوقي، يقول مصطفى صادق الرافعي: ولكنا إذا اعتبرنا لغتهم رأينا حقيقة التمدن فيها متمثلة، وشروطه في مجموعها متحققة، فهي منهم بحر الحياة