إلى الحديث نظرة فيها الكثير من الشك والريبة في صحة ثبوته، وبالتالي في صلاحية استخدامه، سواء في ميدان العقيدة أو في ميدان الفروع العلمية، كما تنظر إلى المُحَدِّثِينَ نظرة استعلاء تَكَادُ تُصَرِّحُ بأنهم - أي المعتزلة - أكثر فهمًا وتطورًا، وأقدر على خدمة الشريعة من هؤلاء المتخلفين، وهو موقف سوف نعالج أسبابه ومراحله في الفصل القادم إن شاء الله.
والذي يهمنا هنا أن المعتزلة قد نجحوا في استمالة السلطة التنفيذية متمثلة في الخلفاء: المأمون والمعتصم والواثق - وكسبوا عطفها وتأييدها، وأوغروا صدرها عَلَى المُحَدِّثِينَ، وأغروها بهم، متخذين من القول بخلق القرآن طُعْمًا يَتَصَيَّدُونَهُمْ بِهِ، وبلاء يقهرهم، وعذابًا يصبونه عليهم، وقد ابتلي بهذه الفتنة كثيرون، كان فيهم الإمام أحمد بن حنبل،، الذي تمسك بموقفه المعارض للمعتزلة، لم ترهبه قوة، وَلَمْ يُغيِّرْ مِنْ رَأْيِهِ بَلَاءٌ، واستمرت محنته أخريات عهد المأمون وطيلة خلافة المعتصم والواثق حتى رفع هذه المحنة الخليفة المتوكل.
كان رد الفعل لهذه الفترة عنيفًا جدًا، فَقَدْ كَرَّ المُحَدِّثُونَ على المعتزلة يحطمونهم وينتقمون منهم، ويوفون لهم الدين، ويكيلون لهم بنفس الكيل، ويرمونهم بكل نقيصة، وأصبح القول بخلق القرآن تهمة يكفي أن يتهم بها إنسان ما حتى يصدر الحكم عليه بالمقاطعة والتجريح، ولا تشفع له منزلته في العلم ولا بلاؤه فيه، كما حدث للبخاري والكرابيسي وداود الظاهري (?).