وقد درسنا هؤلاء الأعلام من خلال مصنفاتهم، فوجدناهم متفاوتين في وضوح الملكة الفقهية، فالمقدمون منهم هم الثلاثة الأول: أحمد، وإسحاق، والبخاري، يليهم الترمذي وأبو داود والنسائي ومسلم والدارمي، ثم يأتي بعد هؤلاء ابن ماجه وأبو بكر بن أبي شيبة.
وقد كان محمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) صاحب آثار ومذهب فقهي ينسب إليه، وكان جديرًا بأن يكون عنصرًا من عناصر الدراسة في هذا البحث، لولا أن آثاره في الحديث نادرة، لم أعثر منها إلا على جزء صغير من كتابه " تهذيب الآثار " مصور بمعهد المخطوطات العربية (*).
ولما كانت الموازنة بين أهل الحديث وأهل الرأي محور هذا البحث لم يكن بد من تحديد هاتين الفئتين فتتبع الفصل الأول هذه العبارة: (أَهْلُ الحَدِيثِ وَأَهْلُ الرَّأْيِ)، وتبين أن إطلاقها على عصر الصحابة والتابعين ليس له ما يبرره، ولهذا كان من الخطأ أن يختص الحجازيون بأنهم أهل الحديث، وأن يقصر الرأي على العراقيين، بل وجد في كلتا المدرستين من يكثر من الرأي ومن يتحرز منه، ومن يكثر من رواية الحديث، ومن يخشى روايته.
فلم يكن الخلاف بين مدرسة الحجاز ومدرسة العراق مسببًا عن اختلاف في المنهج، أو عن قلة الحديث في العراق وكثرته في الحجاز - لكنه كان ناتجًا عن اختلاف البيئة واختلاف المشيخة.
ثم بعد تكون المحدثين وظهور أبي حنيفة أصبحت عبارة (أَهْلُ الحَدِيثِ) عَلَمًا على من يشتغل برواية الحديث، وعبارة (أَهْلُ الرَّأْيِ) عَلَمًا على مدرسة أبي حنيفة.
وقد عالج هذا الفصل اضطراب المؤرخين في تصورهم لأهل الحديث وأهل الرأي، فالمجتهد الواحد يعتبره مؤرخ من أهل الحديث، ويعتبره مؤرخ آخر من أهل الرأي، بل إن المؤرخ الواحد قد يختلف تقديره لمجتهد ما،