في أبي حنيفة، وكأن الخمسة والثمانين عامًا التي مضت منذ وفاة أبي حنيفة حتى وفاة ابن أبي شيبة - لم تضف إلى أهل الرأي من يتحمل مع أبي حنيفة جانبًا من خصومة المحدثين، أو لعلهم كانوا يحاولون زلزلة مذهب أهل الرأي بنقض أساسه، وكشف عواره، متمثلاً في أخطاء مؤسسه ورائده، الإمام أبي حنيفة. والأظهر أنه إنما خصه بالانتقاد، لأن صاحبيه قد خالفاه في كثير من المسائل المنتقدة، كما يتضح عند دراستها.
كما يلاحظ أن أبا بكر بن أبي شيبة يكثر من ذكر الروايات التي توضح مأخذ المحدثين وتؤيد وجهتهم، دون أن يعني بيان وجهة نظر أبي حنيفة، وقد يبدو هذا السلوك طبيعيًا من ابن أبي شيبة، حيث إنه محدث ينظر للأمور من وجهة نظر المحدثين، إلا أن ذكر وجهة النظر الحنفي - في رأينا - كان أولى من إهمالها، إما لنقضها، وتبيين قصورها، وإما تحريًا للعدالة في تقديم وجهتي النظر، حتى يترك للمطلع فرصة الموازنة والمفاضلة.
وعلى كل فسوف نرى أن البخاري قد استدرك ما فات ابن أبي شيبة في كلتا هاتين الملاحظتين، على ما سنبينه في موضعه.
وقبل أن يستغرقا البحث في الموضوعات المنتقدة على أهل الرأي، فإن الإنصاف يدعونا إلى أن نُذَكِّرَ بما هو معلوم من أخذ أبي حنيفة بالسنة واعتباره إياها المصدر الثاني للتشريع، مثله في ذلك مثل سائر المجتهدين من أهل السنة، بل كان يأخذ بأقوال الصحابة ويرفعها إلى مرتبة النصوص، وأن الخلاف بينه وبين المحدثين محصور في الجزئيات لا في الأصل الكلي، نتيجة لاختلاف المنهج في قبول الحديث واعتبار صحته، وترتب على هذا الاختلاف في المنهج أن رفض أبو حنيفة بعض الآثار التي اعتبرت صحيحة من وجهة نظر المحدثين.
وقد سبق في باب (الاِتِّجَاهِ إِلَى الآثَارِ) أَنْ وَازَنَّا بين منهج المحدثين