ولا يعني هذا الاتجاه أن أصحابه قد استغنوا بالعقل عن الحديث، وإلا خرجوا من نطاق بحثنا الذي يعني بالمحدثين، ممن اشتغلوا بصناعة الحديث وتفقهوا فيه - ولكنه يعني أن أصحابه قد أعطوا العقل حرية أوسع عند نظرهم الفقهي في الحديث: سواء في فهم الحديث وعدم الوقوف عند ظاهره، أو ترجيح أحد الحديثين المختلفين باستعمال النظر العقلي، دون اكتفاء بالموازنة بين الأسانيد في ذلك، ولهذا كانت الأحاديث المختلفة والمتعارضة هي الميدان الذي يبرز فيه هذا الاتجاه، الذي يمثله بحق - محدث مات في القرن الرابع ولكنه عاش جل حياته في القرن الثالث، وألف فيه معظم إنتاجه العلمي، ومن بينها كتاب رائع في اختلاف الحديث -. هذا المحدث هو أبو جعفر الطحاوي.
وقد كان " أبو جعفر الطحاوي وأثره في الحديث "، هو موضوع رسالتي التي تقدمتُ بها للحصول على درجة الماجستير، وفيها أبرزتُ هذا الاتجاه الذي كاد ينفرد به الطحاوي في كتابه " شرح معاني الآثار " بما يغنينا عن إعادته، على أن نماذج كثيرة من هذا الاتجاه، سوف تطالعنا في الباب القادم، حيث عني الطحاوي ببيان وجهة نظر الأحناف في المسائل التي اتهموا فيها بمخالفة الحديث، مُبَيِّنًا في كثير من المواضع منهجهم في الأخذ بالسنن.
وبعد، فهذه الاتجاهات التي ذكرناها، لا نزعم أنها قد استوعبت كل اتجاهات المحدثين في الفقه، ولكنها كانت أهم ما تيسر لنا استنباطه من سلوكهم الفقهي، مما وقفنا عليه في كتبهم أو ما روي عنهم، وهي السمات الرئيسية التي تميزهم وتطبعهم بطابع خاص، والتي يندرج فيها كثير من قواعدهم ومناحي تفكيرهم.