واستعلنوا بعصيانها، فيصبح الناس وعلاقاتهم وسلوكهم في جانب، وتقبع الأحكام والتشريعات في جانب قصي عنهم لا تأثير لها ولا حياة فيها.
إن من الخطأ أن نقرر للناس أحكام إلهية، دون أن يمهد لهم الطريق إلى معرفة الإله. وإن التناقض أن يعترف المؤلفون في الفقه الإسلامي بأن الله هو مصدر أحكامهم، وغاية جهده، ثم يهملوا توجيه المشاعر إليه تعالى، وإثارة الخوف من غضبه والأمل في رحمته، ودون أن يحركوا سائر الأحاسيس التي ترهف الوجدان، وتوقظ الضمير، مع أهمية ذلك ومراعاة التشريع الإسلامي، وانبنائه عليه.
ولذلك كان مفهوم الفقه عند السلف مفهومًا رحبًا، يتسع لمعرفة الأحكام العملية والدوافع الإلهية مَعًا، وقد نقلنا فيما سلف عبارات لهم في ذلك، ورأينا كيف أن الغزالي هاجم الفقه الذي يتجرد لمعرفة الأحكام العملية، دون أن يعنى بالجانب الإلهي في الإنسان، وهو الجانب الهام الذي ينير بصيرة الفقيه، ويلهمه عند استنباطه، ويعينه على أن يوائم بين سلوكه وبين الأحكام التي يستنبطها، إذ ليس من المستساغ أن يقرر الفقيه نظريات، ويصوغ مواد، ثم يكون سلوكه مجافيًا لهذه النظريات والمواد، فذلك دليل الضعف في الإيمان وفي العقل. وقد ذم الله سبحانه هذا الصنف من العلماء بقوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (?).
وقد كان الشعبي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «إِنَّا لَسْنَا بِالفُقَهَاءِ، وَلَكِنَّا سَمِعْنَا الحَدِيثَ فَرَوَيْنَاهُ، الفَقِيهُ مَنْ إِذَا عَلِمَ عَمِلَ» (?).