وقول ابن المبارك: «لِيَكُنْ الذِي تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الأَثَرَ وَخُذْ مِنَ الرَّأْيِ مَا يُفَسِّرُ لَكَ الْحَدِيثَ» (?).
فما هو هذا الأثر الذي يدعو إليه المحدثون، ويحرضون على التمسك به؟
إنَّ الأثر قد يراد به ما يرادف الحديث، وقد يطلق على ما هو أعم من الحديث، أي على ما يضاف إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما يضاف إلى الصحابة والتابعين أيضًا. وفقهاء خراسان يخصون الموقوف باسم الأثر ويسمون المرفوع خبرًا (?).
وجمع هذه الآثار عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أو عن الصحابة والتابعين، هو عمل أهل الحديث، الذي تخصصوا فيه وتفرغوا له، وهو صناعتهم التي أتقنوها ونافحوا عنها، فليس غريبًا أن يبينوا أهميتها، ويركزوا دعوتهم إليها، ويوجهوا همتهم إلى استخدامها، ويجعلوا الإكثار منها شرطًا لبلوغ درجة الفقه. فقد ذكر ابن القيم أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ: «إذَا حَفِظَ الرَّجُلُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ يَكُونُ فَقِيهًا؟ قَالَ: " لاَ "، قَالَ: " فَمِائَتَيْ أَلْفٍ؟ " قَالَ: " لاَ "، قَالَ: " فَثَلاَثَ مِائَةِ أَلْفٍ؟ " قَالَ: " لاَ "، قَالَ: " فَأَرْبَعَ مِائَةِ أَلْفٍ "، قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَحَرَّكَ يَدَهُ».
ولا شك أَن في هذا العدد الضخم كثيرًا من أقوال الصحابة والتابعين، بدليل أن ابن القيم نفسه ذكر أن الأحاديث التي تدور عليها أصول الأحكام خمسمائة حديث، وفرشها وتفاصيلها نحو أربعة آلاف حديث (?).