ولربما كان الابتلاء بسبب انشغال البعض عن الدعوة وانصرافه عنها، والتفرغ للدنيا والانغماس في ملهياتها {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
ولربما كان الابتلاء بسبب اعتداد البعض برأيه، وإعجابه بنفسه، واستعلائه على الآخرين كما قال صلى الله عليه وسلم: «فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه» (?).
ولربما كان الابتلاء بسبب عدم القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بيننا.
قال مالك بن دينار: كان حبر من أحبار بنى إسرائيل يغشى الرجال والنساء منزله يعظهم ويذكرهم بأيام الله عز وجل، فرأى بعض بنيه يومًا وقد غمز بعض النساء، فقال: مهلاً يا بنى مهلاً، فسقط من سريره فانقطع نخاعه، وأسقطت امرأته، وقتل بنوه في الجيش، فأوحى الله تعالى إلى نبى زمانه: أن أخبر فلانا الحبر أني لا أخرج من صلبك صديقا أبدًا، أما كان من غضبك لي إلا أن قلت: مهلا يا بنى مهلا (?).
ولربما كان الابتلاء بسبب تغير الاهتمامات والانشغال بغير المهمة المنوطة بأصحاب الدعوة، وإليك أخي القارئ هذه القصة التي تؤكد هذا المعنى: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى فرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فقال الناس: ألقى بنفسه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية منكم، إنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدنا معه المشاهد، ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تحبُّبًا، فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره، حتى فشا الإسلام وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما، فنزل فينا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد (?).
ولربما كان الابتلاء بسبب التقصير في أمر آخر غير ما ذكر، فاللبيب تكفيه الإشارة، وكل منا يعلم ماله وما عليه، والمقصد من هذه الكلمات هو المسارعة إلى محاسبة النفس وعدم إحسان الظن بها، بل اتهامها بأنها السبب فيما حدث للدعوة حتى يثبت العكس.
ومع كل ما قيل عن أسباب الابتلاء إلا أن الحقيقة التي لا مرية فيها أن الابتلاء مظهر عظيم من مظاهر حب الله ولطفه وعنايته بالدعوة ورعايته لأصحابها، فكما قيل:
لعلك عَتْبك محمود عواقبه
وربما صحت الأجساد بالعلل
فالابتلاء رسالة من الله للدعاة بأن عليهم أن يراجعوا أنفسهم ويفتشوا عن مواضع الضعف والتقصير ليتداركوها، فيستكملوا بذلك الأسباب المؤدية إلى استجلاب النصر.