أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ جَلَبَةَ خَصْمٍ بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ. فَقَالَ: " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِى الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَهُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ، فَأَقْضِى لَهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضى: وقوله لهما: " إنما أنا بشر ": تنبيه على حالة البشرية، وأن البشر لا يعلمون فى الغيب والبواطن إلا ما يطلعهم الله - سبحانه - عليه وأنه منهم، وأنه يجوز عليه فى أمور الظاهر باللحون عليهم. وفيه أن حكمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الخلق إنما كان على الظاهر، وإن كان باطن أمرهم بخلافه، فقضى باليمين وبالشاهدين والعفاص والوكاء حكمة من الله تعالى فى ذلك؛ ليتعلم منه أمته طريق الحكم، ويقتدى به فى القضاء، ولو شاء الله لأطلعه على سرائر الخصمين ومخفيات ضمائر المدعين، فيتولى الحكم بمجرد يقينه، ويقضى بقطع مغيبه دون حاجة إلى اعتراف أو بينة أو يمين أو شبهه. ولكن لما أمر الله - سبحانه - أمته باتباعه والاقتداء به فى أقواله وأفعاله وكان هذا مما يخص الله تعالى - به لم يكن للأمة سبيل الاقتداء، فى شىء من ذلك ولا قامت حجة بقضية من قضاياه؛ لأنا لا نعلم بما أوحى به فيه إليه، ولا ما اطلع من أمر الخصمين عليه بحكمه هو، إذ المكنون من علم الله. فأجرى الله - تعالى - أحكامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الظاهر الذى يستوى فيه هو وغيره من البشر؛ ليصح اقتداء أمته به فى قضاياه، ويأت ما أتوا من ذلك على علم من سنته، واعتماداً على علمه؛ إذ البيان بالفصل إجلاء فيه من القول وأرفع لاحتمال اللفظ.
وقوله: " فأقضى له على نحو ما أسمع ": احتج به من لا يجيز له حكم الحاكم بعلمه لقوله: " فلعل بعضكم أن يكون ألحن فى حجته من بعض "، ولقوله: " فأحكم له بما أسمع "، ولم يقل: بما أعلم، ولأن من يرى أحكام الحاكم بعلمه لا يلتفت إلى ما سمع منه الخصم، خالف أو وافق، لا يلتفت إلى حجج الخصم ولا ببيانه إذا علم خلاف ذلك.
وقد يتعلق للاحتجاج به من يجيز حكم الحاكم بما اعترف به عنده فى مجلسه لقوله: " بما أسمع " ولم يقيده بثبات بينة، ويتأول " أقضى له " بمعنى: أقضى عليه، وكلاهما ليس ببين فى الحجة؛ إذ قد يكون معناه: بما أسمع منه من حجة وثبت عندى له من بينة، ألا تراه إنما جعل السماع هنا للمقضى له لا للمقضى، ولو كان ما سمع منه إقراراً لكان الحكم إذاً للمقضى عليه الغير، وكان يحتمل الكلام، وإنما أراد: فأقضى له بما يأتى به فأسمع له من حجة وبينة.