وقالوا: ـ أيُّ حكمةٍ فيها، وأيُّ فائدةٍ؟، وهذا من فرط جهلهم، وسخافة عقولهم، فإن الحكمة لا يجب أن تكون بأسرها معلومة للبشر، ولا أكثرها، بل لا نسبة لما علموه إلى ما جهلوه فيها، لو قيست علوم الخلائق كلهم بوجوه حكمةِ الله تعالى في خلقه وأمرِه إلى ما خفي عنهم منها كانت كنقرةِ عصفورٍ في البحر، وحسب الفَطِن اللبيبِ أن يستدلَّ بما عَرَفَ منها على ما لم يعرف، ويعلم الحكمة فيما جهله منها، مثلها فيما علمه، بل أعظم وأدق.
وما مثل هؤلاء الحمقى النُّوكى إلا كمثل رجل لا علم له بدقائق الصنائع والعلوم بالبناء والهندسة والطب، بل والحياكة والخياطة والتجارة، إذا رام الاعتراض بعقله الفاسد على أربابها في شيء من آلاتهم وصنائعهم وترتيب صناعتهم، فخفيت عليه، فجعل كل ما خفي عليه منها شيء قال: ـ هذا لا فائدة فيه، وأي حكمة تقتضيه، هذا مع أن أرباب الصنائع بَشَر مثله، يمكنه أن يشاركهم في صنائعهم، ويفوقهم فيها، فما الظن بمن بَهَرت حكمتُه العقولَ، الذي لا يشاركه مشارك في حكمته، كما لا يشاركه في خلقه، فلا شريك له بوجه، فَمَنْ ظَنَّ أن يكتال حكمته بمكيال عقله، أو يجعل عقلَه عياراً عليها، فما أَدْرَكهَ أقرَّ به، وما لم يدركه نفاه، فهو من أجهل الجاهلين، ولله في كلِّ ما خفي على الناس وجهَ الحكمةِ فيه حِكمٌ عديدةٌ لا تُدفَع ولا تنكر.