ونحن وإن كنا ننعى على القوم الذين تقدّم ذكرهم أسلوبهم في فهم الدين، لا يسعنا إلّا أن نوجّه اللوم -منصفين- إلى قوم انتسبوا إلى الحديث الشريف انتساباً جعلهم يعرضون عن كتاب الله، ولا يتدبّرونه حقّ التدبر لاستفادة الأحكام منه. بل كل اعتمادهم على السنة وحدها. ولو سألت أحد (علمائهم) عن حكم شرعي ودليله، لما عَرّج على كلام ربه، ولا التفت إليه، بل يسارع إلى الاستشهاد بالحديث والاستدلال به، ولو كان الحكم في القرآن بيّناً واضحاً لا لبس فيه.
ولست أعني أنهم يعتقدون وجوب تقديم السنة على الكتاب، ولكن الذي أعنيه تصرفهم العمليّ في دراساتهم وتآليفهم وفتاواهم ونحو ذلك. وكان الواجب علهيم إنزال السنّة منزلتها الحقيقية، منزلة الخادم لكتاب الله، التابع له، الواقف حياله، يترجم عنه، ويوضّح ما غمض من معانيه.
وليس هناك -في ما نعلم- طائفة من المسلمين يعتقدون تنحية القرآن عن الاحتجاج به في الدين، ولا طائفة معينة يعتقدون تقديم السنة على القرآن، وإن نقل القول بذلك عن قوم لم يعينوا (?). بل المسلمون ما بين معتقد لمساواة القرآن للسنة في الاحتجاج، وبين معتقد لتقديمه عليها، وهو الراجح، كما في الحديث المشهور من إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ إذ قال: "أقضي بكتاب الله، فإن لم أجد فبسنّة رسول الله، فإن لم أجد أجتهد رأيي ولا آلو" (?). وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال في كتابه إلى شريح قاضيه على الكوفة: "إذا أتاك أمر فاقض بما في كتاب الله، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله فاقض بما سنّ فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (?). وفي رواية: "إذا وجدت شيئاً في كتاب الله فاقض فيه ولا تلتفت إلى غيره".