وأغنانا بالخلوة الشرعية حال الاعتكاف، عن الخلوة البدعية التى يترك لها الحج والجهاد والجمعة والجماعة. وكذلك أغنانا بالطرق الشرعية عن طرق أهل المكر والاحتيال.
فلا تشتد حاجة الأمة إلى شئ إلا وفيما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ما يقتضى إباحته وتوسعته، بحيث لا يحوجهم فيه إلى مكر واحتيال، ولا يلزمهم الآصار والأغلال، فلا هذا من دينه، ولا هذا. كما أغنانا بالبراهين والآيات التى أرشد إليها القرآن عن الطرق المتكلفة المتعسفة المعقدة، التى باطلها أضعاف حقها: من الطرق الكلامية، التى الصحيح منها كلحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل.
ونحن نعلم علما لا نشك فيه أن الحيل التى تتضمن تحليل ما حرمه الله تعالى، وإسقاط ما أوجبه لو كانت جائزة لسنها الله سبحانه. وندب إليها، لما فيها من التوسعة، والفرج للمكروب، والإغاثة للملهوف، كما ندب إلى الإصلاح بين الخصمين. وقد قال المبعوث بالحنيفية السمحة صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "مَا تَرَكْتُ مِنْ شَئْ يُقَرِّبُكُمْ إِلَى الْجَنّةِ إلا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ، وَلا تَرَكْتُ مِنْ شَئْ يُبْعِدُكُمْ عَنِ النَّارِ إِلا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ، وَتَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِى إلا هَالِكٌ".
فهلا ندب النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى الحيل، وحض عليها، كما حض على إصلاح ذات البين؟ بل لم يزل يحذر من الخداع، والمكر، والنفاق، ومشابهة أهل الكتاب باستحلال محارمه بأدنى الحيل.
ولو كان مقصود الشارع إباحة تلك المحرمات التى رتب عليها أنواع الذم والعقوبات وسد الذرائع الموصلة إليها لم يحرمها ابتداء، ولا رتب عليها العقوبة، ولا سد الذرائع إليها. ولكان ترك أبوابها مفتحة أسهل من المبالغة فى غلقها وسدها، ثم يفتح لها أنواع الحيل، حتى ينقب المحتال عليها من كل ناحية. فهذا مما تصان عنه الشرائع، فضلا عن أكملها شريعة وأفضلها دينا.