وجاهد في الله حق جهاده حتى خصم قريشا حين جادلوه وصابرهم حين عاندوه وجمهم غفير وجمعهم كثير إلى أن علت كلمته وظهرت دعوته وكابد من الشدائد ما لم يثبت عليها إلّا معصوم ولا يسلم منها إلّا منصور، وكل هذه آيات تنذر بالحق وتلائم الصدق لأن الله لا يهدي كيد الخائنين ولا يصلح عمل المفسدين.
فأما شرعه من الدين فالشرع بعد التوحيد يشتمل على قسمين: عبادات وأحكام، فأما العبادات فلم يشرع منها مدة مقامه بمكة إلّا الطهارة والصلاة حين علمه جبريل الوضوء والصلاة وكانت فرضا عليه وسنّة لأمته لقول الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ (?) فكان هذا حكمها في حقه وحقوق أمته إلى أن فرضت الصلوات الخمس بعد إسرائه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وذلك في السنة التاسعة من نبوته فصارت الصلوات الخمس فرضا عليه وعلى أمته ولم يفرض ما سواها من العبادات حتى هاجر إلى المدينة وصارت له بالإسلام دارا وصار أهلها أنصارا، فأول ما فرض بالمدينة من العبادات بعد فرض الصلوات الخمس بمكة صيام شهر رمضان في الثانية من الهجرة في شعبان، وفيها حوّلت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، وفرض فيها زكاة الفطر، وشرع فيها صلاة العيد، وكان فرض الجمعة قد تم في أول الهجرة بدلا من صلاة الظهر ثم فرضت زكاة الأموال بعد ظهور القوة وسد الخلة ثم الحج والعمرة، وأما الأحكام فما أوجبته قضايا العقول من تحريم القتل والزنا كان مشروعا بمكة مع ظهور إنذاره وما تردد في قضايا العقول بين فعله وتركه كف عن الحكم فيه بتحليل أو تحريم أو حظر أو إباحة أو استحباب أو كراهة فلم يحلل بمكة حلالا ولا حرم بها حراما حتى هاجر منها، فحلل بعد الهجرة وحرم وأباح وحظر لأنه كان بمكة مغلوبا باستيلاء قريش عليها وكانت دار شرك لا ينفذ فيها أحكامه فلم يحلل ولم يحرم حتى صار بالمدينة في دار إسلام تنفذ فيها أحكامه فبيّن ما حلل وحرم وبيّن ما