يكن متعبدا بشريعة من تقدمه من الأنبياء لأنه لو تعبّد بها لتعلمها ولعمل بها ولو عمل بها لظهرت منه ولو ظهرت منه لا تبعه فيها الموافق ونازعه فيها المخالف، وذهب بعض المتكلمين وأكثر الفقهاء من أصحاب الشافعي وأبي حنيفة إلى أنه كان متعبدا بشريعة من تقدمه من الأنبياء لأنهم دعوا إلى شرائعهم من عاصرهم ومن يأتي بعدهم ما لم تنسخ بنبوّة حادثة، فدخل الرسول صلى الله عليه وسلم في عموم الدعاء قبل مبعثه لأن الله تعالى لا يخلي زمانا من شرع متبوع ولا متدينا من تعبد مسموع، واختلف من قال بهذا فيما كان متعبدا به من الشرائع المتقدمة فذهب بعضهم إلى أنه كان متعبدا بشريعة جده إبراهيم عليهما السلام لقوله تعالى:
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (?) ولأنه كان في الحج والعمرة على مناسكه، وذهب آخرون إلى أنه كان متعبدا بشريعة موسى فيما لم تنسخه شريعة عيسى عليهم السلام لظهور شريعته في التوراة ودروس ما تقدمها من الشرائع مع قول الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ (?) وذهب آخرون إلى أنه كان متعبدا بشريعة عيسى عليه السلام لأنها كانت ناسخة لشريعة موسى فسلم قبل مبعثه من حرج في دينه وقدح في يقينه، وهذا من أمارات الاصطفاء ومقدمات الاجتباء.
ولما وجد الأمر في النبوّة ودنا وقتها حبب الله تعالى إلى رسوله الخلاء بعد أربعين سنة من عمره حين تكامل نهاه واشتد قواه ليكون متهيئا لما قدر له ومتأهبا لما أريد له فكان يتخلى في غار بحراء في ذوات العدد من الليالي.
وقيل: شهرا في السنة على عادة كانت لقريش في التبرز بالمجاورة (?) بحراء ويعود إلى أهله إلى أن استدام الخلاء في الغار لما أراد الله تعالى به فكان يؤتى بطعامه وشرابه فيأكل منه ويطعم المساكين برهة من زمانه وهو غافل عن النبوّة