فلما كان الليل وضعها تحت رأسه وفراشه عباءة فجعل لا يأخذه النوم فيرجع فيصلي، فقالت له عائشة: يا رسول الله حلّ بك شيء؟ قال: «لا» ؟ قالت فجاءك أمر من الله؟ قال: «لا» ، قالت: إنك صنعت منذ الليلة شيئا لم تكن تفعله، فأخرجها وقال: «هذه التي فعلت بي ما ترين أني خشيت أن يحدث أمر من أمر الله ولم أمضها» (?) .
وروى الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن ترك دينا فعليّ ومن ترك مالا فلورثته» ، فهل مثل هذا الكرم والجود كرما وجودا، أم هل لمثل هذا الإعراض والزهادة إعراضا وزهدا هيهات هل يدرك شيئا ومن هذه شذور من فضائله ويسير من محاسنه التي لا يحصى لها عدد ولا يدرك لها أمد لم تكمل في غيره فيساويه ولا كذب بها ضد يناويه ولقد جهد كل منافق ومعاند وكل زنديق وملحد أن يزري عليه في قول أو فعل أو يظفر بهفوة في جد أو هزل فلم يجد إليه سبيلا وقد جهد جهده وجمع كيده، فأي فضل أعظم من فضل تشاهده الحسدة والأعداء فلم يجدوا فيه مغمزا لثالب أو قادج ولا مطعنا لجارح أو فاضح، فهو كما قال الشاعر:
شهد الأنام بفضله حتى العدى ... والفضل ما شهدت به الأعداء
وحقيق لمن بلغ من الفضائل غايتها واستكمل لغايات الأمور آلتها، أن يكون لزعامة العالم مؤهلا، وللقيام بمصالح الخلق موكلا، ولا غاية بعد النبوة أن يعم له صلاح أو ينحسم به فساد فاقتضى أن يكون لها أهلا وللقيام بها مؤهلا ولذلك استقرت به حين بعث رسولا ونهض بحقوقها حين قام به كفيلا فناسبها وناسبته ولم يذهل لها حين أتته، وكل متناسبين متشاكلان وكل متشاكلين مؤتلفان وكل مؤتلفين متفقان والاتفاق وفاق هو أصل كل انتظام وقاعدة كل التئام فكان ذلك من أوضح الشواهد على صحة نبوّته وأظهر الأمارات في صدق رسالته فما ينكرها بعد الوضوح إلّا مفضوح والحمد الله الذي وفق لطاعته وهدى إلى التصديق برسالته.