بِشَهَادَتِهِمَا لَمْ تَبْطُلْ شَهَادَتُهُمَا، وَكَذَلِكَ الرَّاوِي لَا تَبْطُلُ رِوَايَتُهُ بِمَوْتِهِ، فَكَذَلِكَ الْمُفْتِي لَا تَبْطُلُ فَتْوَاهُ بِمَوْتِهِ، وَمَنْ قَالَ: تَبْطُلُ فَتْوَاهُ بِمَوْتِهِ قَالَ: أَهْلِيَّتُهُ زَالَتْ بِمَوْتِهِ، وَلَوْ عَاشَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ تَجْدِيدُ الِاجْتِهَادِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَغَيَّرُ اجْتِهَادُهُ، وَمِمَّنْ حَكَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُفْتِي أَبُو الْخَطَّابِ فَقَالَ: إنْ مَاتَ الْمُفْتِي قَبْلَ عَمَلِ الْمُسْتَفْتِي فَلَهُ الْعَمَلُ بِهَا، وَقِيلَ: لَا يَعْمَلُ بِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[إذَا تَكَرَّرَتْ الْوَاقِعَةُ فَهَلْ يَسْتَفْتِي مِنْ جَدِيدٍ؟] الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ وَالسِّتُّونَ: إذَا اسْتَفْتَاهُ عَنْ حُكْمِ حَادِثَةٍ فَأَفْتَاهُ وَعَمِلَ بِقَوْلِهِ، ثُمَّ وَقَعَتْ لَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِتِلْكَ الْفَتْوَى الْأُولَى أَمْ يَلْزَمُهُ الِاسْتِفْتَاءُ مَرَّةً ثَانِيَةً؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، فَمَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ بِذَلِكَ قَالَ: الْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِالْفَتْوَى وَإِنْ أَمْكَنَ تَغَيُّرُ اجْتِهَادِهِ، كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا بَعْدَ مُدَّةٍ مِنْ وَقْتِ الْإِفْتَاءِ وَإِنْ جَازَ تَغَيُّرُ اجْتِهَادِهِ، وَمَنْ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: لَيْسَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ بَقَاءِ الْمُفْتِي عَلَى اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ فَيَكُونَ الْمُسْتَفْتِي قَدْ عَمِلَ بِمَا هُوَ خَطَأٌ عِنْدَ مَنْ اسْتَفْتَاهُ، وَلِهَذَا رَجَّحَ بَعْضُهُمْ الْعَمَلَ بِقَوْلِ الْمَيِّتِ عَلَى قَوْلِ الْحَيِّ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلِيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ؛ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ
[هَلْ يَلْزَمُ اسْتِفْتَاءُ الْأَعْلَمِ؟] الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ وَالسِّتُّونَ: هَلْ يَلْزَمُ الْمُسْتَفْتِي أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَعْيَانِ الْمُفْتِينَ وَيَسْأَلَ الْأَعْلَمَ وَالْأَدْيَنَ أَمْ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؟ فِيهِ مَذْهَبَانِ كَمَا سَبَقَ، وَبَيَّنَّا مَأْخَذَهُمَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ الْمُسْتَطَاعُ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ - تَعَالَى - الْمَأْمُورِ بِهَا كُلُّ أَحَدٍ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ مُفْتِيَانِ أَحَدُهُمَا أَوَرَعُ، وَالْآخَرُ أَعْلَمُ فَأَيُّهُمَا يَجِبُ تَقْلِيدُهُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبُ سَبَقَ تَوْجِيهُهَا.
وَهَلْ يَلْزَمُ الْعَامِّيَّ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِبَعْضِ الْمَذَاهِبِ الْمَعْرُوفَةِ أَمْ لَا؟ فِيهِ مَذْهَبَانِ: [هَلْ عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَرْبَعَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ؟] أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ، وَهُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ؛ إذْ لَا وَاجِبَ إلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبِ رَجُلٍ مِنْ الْأُمَّةِ فَيُقَلِّدَهُ دِينَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَدْ انْطَوَتْ الْقُرُونُ الْفَاضِلَةُ مُبَرَّأَةً مُبَرَّأَ أَهْلِهَا مِنْ هَذِهِ النِّسْبَةِ، بَلْ لَا يَصِحُّ لِلْعَامِّيِّ مَذْهَبٌ وَلَوْ تَمَذْهَبَ بِهِ؛ فَالْعَامِّيُّ لَا مَذْهَبَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ لَهُ نَوْعُ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَيَكُونُ بَصِيرًا بِالْمَذَاهِبِ عَلَى حَسْبِهِ، أَوْ لِمَنْ قَرَأَ كِتَابًا فِي فُرُوعِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ وَعَرَفَ فَتَاوَى إمَامِهِ وَأَقْوَالَهُ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتَأَهَّلْ لِذَلِكَ أَلْبَتَّةَ بَلْ قَالَ: أَنَا شَافِعِيٌّ، أَوْ