بِخِلَافِ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ دِينِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّ مَنْ جَاءَهُ يَتَحَاكَمُ إلَيْهِ لِأَجْلِ غَرَضِهِ لَا لِالْتِزَامِهِ لِدِينِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} [المائدة: 42] فَهَؤُلَاءِ لَمَّا لَمْ يَلْتَزِمُوا دِينَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
[ذِكْرُ الْفَتْوَى مَعَ دَلِيلِهَا أَوْلَى] الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ وَالسِّتُّونَ: عَابَ بَعْضُ النَّاسِ ذِكْرَ الِاسْتِدْلَالِ فِي الْفَتْوَى، وَهَذَا الْعَيْبُ أَوْلَى بِالْعَيْبِ، بَلْ جَمَالُ الْفَتْوَى وَرُوحُهَا هُوَ الدَّلِيلُ، فَكَيْفَ يَكُونُ ذِكْرُ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ عَيْبًا؟ وَهَلْ ذِكْرُ قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَّا طِرَازُ الْفَتَاوَى؟ وَقَوْلُ الْمُفْتِي لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلْأَخْذِ بِهِ، فَإِذَا ذُكِرَ الدَّلِيلُ فَقَدْ حَرُمَ عَلَى الْمُسْتَفْتِي أَنْ يُخَالِفَهُ، وَبَرِئَ هُوَ مِنْ عُهْدَةِ الْفَتْوَى بِلَا عِلْمٍ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فَيَضْرِبُ لَهَا الْأَمْثَالَ وَيُشَبِّهُهَا بِنَظَائِرِهَا، هَذَا وَقَوْلُهُ وَحْدَهُ حُجَّةٌ، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ لَيْسَ قَوْلُهُ بِحُجَّةٍ وَلَا يَجِبُ الْأَخْذُ بِهِ؟ وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ وَأَعْلَاهَا أَنْ يَسُوغَ لَهُ قَبُولَ قَوْلِهِ، وَهَيْهَاتَ أَنْ يَسُوغَ بِلَا حُجَّةٍ، وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سُئِلَ أَحَدُهُمْ عَنْ مَسْأَلَةٍ أَفْتَى بِالْحُجَّةِ نَفْسِهَا، فَيَقُولُ: قَالَ اللَّهُ كَذَا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا، أَوْ فَعَلَ كَذَا، فَيَشْفِي السَّائِلَ، وَيَبْلُغُ الْقَائِلُ، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي فَتَاوِيهِمْ لِمَنْ تَأَمَّلَهَا، ثُمَّ جَاءَ التَّابِعُونَ وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُمْ فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَذْكُرُ الْحُكْمَ ثُمَّ يَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ، وَعِلْمُهُ يَأْبَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِلَا حُجَّةٍ، وَالسَّائِلُ يَأْبَى قَبُولَ قَوْلِهِ بِلَا دَلِيلٍ.
ثُمَّ طَالَ الْأَمَدُ وَبَعُدَ الْعَهْدُ بِالْعِلْمِ، وَتَقَاصَرَتْ الْهِمَمُ إلَى أَنْ صَارَ بَعْضُهُمْ يُجِيبُ بِنَعَمْ أَوْ لَا فَقَطْ، وَلَا يَذْكُرُ لِلْجَوَابِ دَلِيلًا وَلَا مَأْخَذًا، وَيَعْتَرِفُ بِقُصُورِهِ وَفَضْلِ مَنْ يُفْتِي بِالدَّلِيلِ، ثُمَّ نَزَلْنَا دَرَجَةً أُخْرَى إلَى أَنْ وَصَلَتْ الْفَتْوَى إلَى عَيْبِ مَنْ يُفْتِي بِالدَّلِيلِ وَذَمِّهِ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يُحْدِثَ لِلنَّاسِ طَبَقَةً أُخْرَى لَا يُدْرَى مَا حَالُهُمْ فِي الْفَتَاوَى، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
[هَلْ يُقَلِّدُ الْمُفْتِي الْمَيِّتَ إذًا عَلِمَ عَدَالَتَهُ؟] الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ وَالسِّتُّونَ: هَلْ يَجُوزُ لِلْمُفْتِي تَقْلِيدَ الْمَيِّتِ إذَا عَلِمَ عَدَالَتَهُ وَأَنَّهُ مَاتَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْأَلَ الْحَيَّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، أَصَحُّهُمَا لَهُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْمَذَاهِبَ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ أَصْحَابِهَا، وَلَوْ بَطَلَتْ بِمَوْتِهِمْ لَبَطَلَ مَا بِأَيْدِي النَّاسِ مِنْ الْفِقْهِ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ، وَلَمْ يَسُغْ لَهُمْ تَقْلِيدُهُمْ وَالْعَمَلُ بِأَقْوَالِهِمْ، وَأَيْضًا لَوْ بَطَلَتْ أَقْوَالُهُمْ بِمَوْتِهِمْ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِمْ فِي الْإِجْمَاعِ وَالنِّزَاعِ، وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَ الشَّاهِدَانِ ثُمَّ مَاتَا بَعْدَ الْأَدَاءِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ