وهذا هو الغرضُ الذي أردنا إليه الكلامَ في كل ما مرَّ من هذا الباب جهة إلى جهة، وأرَغْنا معانيه فصلاً إلى فصل، وخُضنا في ضروبه معنى إلى معنى، وقد وقَّفناك منه على وجوه عدة، من سر كان مكتوماً، وخبء كان مجهولاً، ومقطع من الحق كان مشتبهاً، وكلها خارج عن طوق
الإنسان عندما يتعاطى وعندما يتوهم وعندما يثبت، وكلها لم يشهده الزمن إلا مرة واحدة.
وإنما الإعجاز شيئان: ضعف القدرة الإنسانية في محاولة المعجزة ومزاولته على شدة الإنسان واتصال عنايته، ثم استمرار هذا الضعف على تراخي الزمن وتقدمه؛ فكأن العالم كله في
العجز إنسان واحد ليس له غير مدته المحدودة بالغة ما بلغت؛ فيصير من الأمر المعجز إلى ما
يشبه في الرأي مقابلة أطول الناس عمراً بالدهر على مداه كله. فإن المعمر دهرَ صغير، وإن لكليهما مدة في العمر هي من جنس الأخرى؛ غير أن واحدة منهما قد استغرقت الثانيةَ؛ فإن
شاركتها الصغرى إلى حد فما عسى أن يشركهما فيما بقي.
ونحن الآن قائلون فيما هو الإعجاز عند علمائنا - رحمهم الله - وما وضعوه فيه من الكتب؛
ثم ما هي حقيقته عندنا؛ ثم تبسط الكلام فضلاً من البسط في إعجاز القرآن بأسلوبه وبيانه مما يماسُّ اللغةَ ويستطرق إليها - نستتم بذلك القول فيما انتهى إليه جهدنا من قليل ما استَطفَّ (?) لنا من
أسراره العجيبة، وإن قليلَها لكثير على الإنسان بالغة ما بلغت قوته.
ولسنا ندعي أننا أشرفنا على الأمَد وأوفينا على معجزة الأبد، فإن هذا أمر ضيق كثير الالتواء لمن تلمس جوانبه، واقتحم مصاعبه، وما أشبه القرآن الكريم في تركيب إعجازه، وإعجاز تركيبه
بصورة كلامية من نظام هذا الكون الذي اكتَنَفه العلماء من كل جهة، وتعاوَرُوه من كل ناحية،
وأخلقوا جوانبه بحثاً وتفتيشاً. ثم هو بعدُ لا يزال عندهم على ذلك خَلقاً جديداً، ومراماً بعيداً، وصعباً شديداً، وإنما بلغوا منه إذ بلغوا منه نزراً تهيأت لضعفه أسبابه، وقليلاً عرِفَ لقتله حسابُه،
وبقي ما وراء ذلك من الأمر المتعذر الذي وقفت عنده الأعذار؛ والابتغاء المعجز الذي انحط عنده قدرُ الإنسان لأنه مما سمحت به الأقدار.