ومنذ بدأت القراءةُ تتميز بأنها علم يتدارسُ ويتلقى، بدأت فيها الصناعة العلمية؛ فحُصِرت
وجوهها وعينت مذاهبها؛ ومن شأن كل علم أن يكون ضبطُ الصحيح فيه حذاً لغير الصحيح، وقد
تكون الأمثلة التي تُنزع من العلم للتمثيل بها على صحيحه مما يقتضي التمثيل بضدها على فاسده،
فتُقلب القاعدة أو الكلمة على وجوهها المتباينة مما اطرد أو شذ؛ وبهذا يُدل على المذاهب الضعيفة ويُطرق إلى معرفتها. فعسى أن يكون ممن يقفون عليها من تنقطع به المعرفة عندها، أو يقف به الهوى على حدها، أو يعجبه منها إن كان له أن يكون صاحبَ غريب، وأمره عند العامة
والجمهور ما عرفت في باب الرواية وأن يتدافعه الناس رَاد معه وراذ عليه، أن يكون هو ضعيف البصر بهذا الأمر قليلَ التمييز فيه، أو يكون خبيث الدخلةُ مستجمَّ الباطل، أو من أصحاب العلَلِ والمِراءِ أو شيء مما يَجري هذا المجرى، فلا يلبث أن يأخذ بها دون الصحيح. ويتقفَد
أمرها على وهنه واضطرابه، فيَعْتَسِرَ الكلام فيها، ويبالغ في النضح عنها والدفع لما عداها،
ويتكلف لتصحيح هذا الفساد كما يتكلفُ لإفساد الصحيح وتوهينه؛ ومن ثمَّ ينشأ من العلم علم آخر لم يكن قبل إلا حاجة من التمثيل به لغيره! فاتسع حتى صار في حاجة إلى التمثيل له بغيره.
كذلك نشأت القراءات الغريبة في رأينا، فإن هذا الشاذ وهذا الضعيف وهذا المنكر مما لا تحسبه كان معروفاً متلقى بالإسناد الذي لا مغمز فيه وإن لم يقرأ به أصحابه إلا على أنه معروف مُوثق الأسانيد.
ولا بد أن تكون قد شذت وجوه كثيرة من القراءات قبل مصحف عثمان، وخاصة فيمن يقرأ من عَرَب الأمصار من الأوشاب المستضعفين الذين لم تخلُص فطرتهم ولم تتوقح طباعهم، وكل
أولئك قد كان لهم في أحيائهم من يُقرئهم القرآن، فإن كان قد وقع أمر من ذلك لأصحاب القراءات ومن يتتبعون وجوهها فأخذ به لأنه عن متقدم يُسنده أو يزعمه صحيحاً عمن يُسنده فذلك
أيضاً قول ومذهب.
والعلماءُ على أن القراءات متواترة وآحاذ وشاذة. وجعلوا المتواتر السبع والأحادَ الثلاثَ المتممةَ لعشرها ثم ما يكون من قراءات الصحابة - رضي الله عنهم مما لا يوافق ذلك. وما بقي فهو شاذ.
والقياسق عندهم موافقة القراءة للعربية بوجه من الوجوه، سواء كان أفصحَ أم فصيحاً،