وهذا الفصل مما نتأذى به إلى الكلام في لغة القرآن، فهو سبيلنا إليها في نَسق التأليف، إذ القراءة والأداء أمران يتعلقان باللفظ ويبنيان على وجوه اللغة التي قام بها.
وليس من همنا فيما نأتي به إلا نقضي حق التاريخ اللغوي، منصرفين ما وَسعنا الانصراف عن الجهة الفنية التي هي جانب من علمي القراءات والتجويد، فإن الكلام في هذه الجهة يتسع،
وهو غير ما نحن فيه، وما زالت الجهة الفنية من كل علم هي فرغ من أصله في التاريخ.
نزل القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأفصح ما تسمو إليه لغة العرب في خصائصها العجيبة وما
تقوم به، مما هو السبب في جزالتها ودقة أوضاعها وإحكام نظمها واجتماعها من ذلك على تأليف صوتي يكاد يكون موسيقياً محضاً، في التركيب، والتناسب بين أجراس الحروف والملاءمة بين طبيعة المعنى وطبيعة الصوت الذي يؤديه، كما بيناه في بابه من الجزء الأول
فكان مما لا بدَّ منه بالضرورة أن يكون القرآن أملكَ بهذه الصفات كلها، وأن يكون ذلك التأليف
أظهرَ الوجوهِ التي نزل عليها، ثم أن تتعدد فيه مناحي هذا التأليف تعدداً يكافئ الفروع اللسانية
التي سبقت بها فطرة اللغة في العرب، حتى يستطيع كل عربي أن يوقع بأحرفه وكلماته على لحنه الفطري ولهجة قومه، توقيعاً يطلق من نفسه الأصوات الموسيقية التي يشيع بها الطرب في
هذه النفس، بما يسمونه في لغة العرب بياناً وفصاحة. وهو في لغة الحقيقة الموسيقى اللغوية.
وإذا تم هذا النظم للقرآن مع بقاء الإعجاز الذي تحدى به، ومع اليأس من معارضته،
على ما يكون في نظمه من تقلب الصور اللفظية في بعض الأحرف والكلمات بحسب ما يلائم تلك الأحوال في مناطق العرب، فقد تم له التمام كله، وصار إعجازه إعجازاً للفطرة اللغوية في
نفسها حيث كانت وكيف ظهرت ومهما يكن من أمرها: ومتى كان العجز فطرياً فقد ثبت بطبيعته، وإن لجَّ فيه الناس جميعاً، لأنه شيء في تلك الفطرة يفهم منه صريحا ثم لا تنكر هي
موضعه منها وموقعه، وإن كابرت فيه الألفاظ وبالغت الأهواء في جَحده والانتفاء منه مراءً ومغالبة.
والطبيعة قد توجد في مفردات لغتها مترادفات، بحيث يكون الشيئان لمعنى واحد، ولكن لا توجد فيها الأضداد بحال من الأحوال، فلا يكون الشيء الطبيعي محتملاً بصورته الواحدة لأن
بكون إقراراً وإنكاراً معاً، ومن ثم لا يستقيم للعرب أن يعارضوا القرآن، إذ كان مأتى العجز من