وقد وردت في القرآن ألفاظ هي أطول الكلام عدد حروفي ومقاطع مما يكون مستثقلاً بطبيعة
وضعه أو تركيبه، ولكنها بتلك الطريقة التي أومأنا إليها قد خرجت في نظمه مخرجاً سرياً، فكانت
من أحضر الألفاظ حلاوة وأعذبها منطقاً وأخفها تركيباً، إذ تراه قد هيا لها أسباباً عجيبة من تكرار
الحروف وتنوع الحركات، فلم يجرها في نظمه إلا وقد وُجد ذلك فيها، كقوله: (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ)
فهي كلمة واحدة من عشرة أحرف وقد جاءت عذوبتها من تنوع مخارج الحروف ومن نظم حركاتها، فإنها بذلك صارت في النطق كأنها أربع كلمات؛ إذ تُنطق على أربعة مقاطع،
وقوله: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ)
فإنها كلمة من تسعة أحرف، وهي ثلاثة مقاطع وقد تكررت فيها الياء
والكاف، وتوسط بين الكافين هذا المد الذي هو سر الفصاحة في الكلمة كلها.
وهذا إنما هو الألفاظ المركبة التي ترجع عند تجريدها من المزيدات إلى الأصول الثلاثية أو الرباعية، أما أن تكون اللفظة خماسية الأصول فهذا لم يرد منه في القرآن شيء، لأنه مما لا وجه للعذوبة فيه، إلا ما كان من اسم عُرْب ولم يكن في الأصول عربياً: كإبراهيم، وإسماعيل،
وطالوت، وجالوت، ونحوها؛ ولا يجيء به مع ذلك إلا أن يتخلله المد كما ترى؛ فتخرج الكلمة وكأنها كلمتان.
وفي القرآن لفظة غريبة هي من أغرب ما فيه، وما حسنت في كلام قط إلا في موقعها منه،
وهي كلمة " ضِيزى " من قوله تعالى: (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) .
ومع ذلك فإن حسنها في نظم الكلام من أغرب الحسن وأعجبه؛
ولو أردتَ اللغة عليها ما صلح لهذا الموضع غيرها؛ فإن
السورة التي هي منها وهي سورة النجم، مفصلة كلها على الياء؛ فجاءت الكلمة فاصلة من الفواصل ثم هي في معرض الإنكار على العرب؛ إذ وردت في ذكر الأصنام وزعمهم في قسمة الأولاد، فإنهم جعلوا الملائكة والأصنام بناب لله مع أولادهم البنات فقال تعالى: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) .
فكانت غرابة اللفظ أشد الأشياء ملاءمة لغرابة هذه القسمة
التي أنكرها، وكانت الجملة كلها كأنها تصور في هيئة النطق بها الإنكارَ في الأولى والتهكم في الأخرى؛ وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة، وخاصة في اللفظة الغريبة التي تمكنت في موضعها من الفصل، ووصفت حالة المتهكم في إنكاره من إمالة اليد والرأس بهذين المدَّين فيها
إلى الأسفل والأعلى، وجمعت إلى كل ذلك غرابة الإنكار بغرابتها اللفظية.
والعربُ يعرفون هذا الضربَ من الكلام، وله نظائرُ في لغتهم، وكم من لفظة غريبة عندهم لا تحسن إلا في موضعها، ولا يكون حسنها على غرابتها إلا أنها تؤكد المعنى الذي سبقت له بلفظها وهيئة منطقها، فكأن في تأليف حروف معنى حسياً، وفي تألف أصواتها معنى مثله في
النفس؛ وقدن بهنا إلى ذلك في باب اللغة من تاريخ آداب العرب.