من ذلك لفظة (النذرُ) جمع نذير؛ فإن الضمة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذال معاً، فضلاً عن جسأة هذا الحرف ونُبوهِ في اللسان، وخاصة إذا جاء فاصلة للكلام.

فكل ذلك مما يكشف عنه ويفصح عن موضع الثقل فيه؛ ولكنه جاء في القرآن على العكس وانتفى من طبيعته في

قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) .

فتأمل هذا التركيب، وأنعم ثم أنعم على تأمله، وتذوق مواقع الحروف وأجر حركاتها في حس السمع وتأمل مواضع القلقلة في دال (لقد) ،

وفي الطاء من (بطشتنا) وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطاء إلى واو (تماروا) ، مع الفصل بالمد، كأنها تئقيل لخفة التتابع في الفتحات إذا هي جرت على اللسان، ليكون ثقل الضمة عليه

مستخَفاً بعد، ولكون هذه الضمة قد أصابت موضعها كما تكون الأحماض في الأطعمة. ثم ردد نظرك في الراء من (تمارَوا) فإنها ما جاءت إلا مساندة لراء (النذر) حتى إذا انتهى اللسان إلى هذه انتهى إليها من مثلها، فلا تجف عليه ولا تغلظ ولا تنبو فيه، ثم أعجب لهذه الغنة التي سبقت

الطاء في نون (أنذرَهم) وفي ميمها، وللغنة الأخرى التي سبقت الذال في (النذر) .

وما من حرف أو حركة في الآية إلا وأنت مصيب من كل ذلك عجباً في موقعه والقصد به، حتى ما تشك أن الجهة واحدة في نظم الجملة والكلمة والحرف والحركة، ليس منها إلا ما يشبه في الرأي أن يكون قد تقدم فيه النظر وأحكمته الروية وراضه اللسان، وليس منها إلا متخئر مقصود

إليه من بين الكلم ومن بين الحروف ومن بين الحركات، وأين هذا ونحوه عند تعاطيه ومن أي وجه يلتمس وعلى أي جهة يستطاع، وكيف يأتي للإنسان في مثل تلك الآية وحدها - فضلاً عن القرآن كله - وهو لا يكون إلا عن نظر وصنعة كلامية؛ والبليغ من الناس متى اعتسف هذا الطريق

ولم يكن في الكلام إلى سجيته وطبعه فقد خذلته البلاغة واستهلكته الصنعة، وضاق به التصرف وتناثرت أجزاء كلامه من جهاتها، وكلما لج في المكابرة لجت البلاغة في الإباء، فمثله كمن يمشي مستديراً ويحسب أنه يتقدم، لأنه - زَعمَ - لم يحرف وجهه ولم ينفتل عن قصده، ولأن نظره

ما يزال ثابتاً فيما يستقبله!

إنما تلك طريقة في النظم قد انفرد بها القرآن، وليس من بليغ يعرف هذا الباب إلا وهو يتحاشى أن يُلم به من تلك الجهة أو يجعل طريقه عليها، فإن اتفق له شيء منه كان إلهاماً ووحياً،

لا تقتحم عليه الصناعة ولا يتيسير له الطبع بالفكر والنظر، وكان مع ذلك لا يخلو من التواء ومن مغمز، على أنه يكون جملة من فصل أو عبارة من جملة أو بيتاً من قصيدة أو شطرأمن بيت، لا يطرد ولا يستوي وليس إلا أن يتفق اتفاقاً؛ أما أن يتهيأ لأحد من البلغاء في عصور العربية كلها من

معارض الكلام وألفاظه، ما يتصرف به هذا التصرف في طائفة أو طوائف من كلامه، على أن يضرب بلسانه ضرباً موسيقياً، وينظم نظماً مطرداً ويُهدف الكلمة الكلمة وينصب الحرف للحرف،

ويعصب الحركة بالحركة، ويُجري بعضاً من بعض - فهذا إن أمكن أن يكون في كلام ذي ألفاظ،

فليس يستقيم في ألفاظ ذات معان، فهو لغو من إحدى الجهتين، ولو أن ذلك ممكن لقد كان اتنفق في عصر خلا من ثلاثة عشر قرناً.

ونحن اليوم في القرن الرابع عشر من تاريخ تلك المعجزة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015