ذلك بعض ما تهيأ لنا من القول في الجهات التي اختص بها أسلوب القرآن فكانت أسباباً لانقطاع العرب دونه وانخذالهم عنه، وتلك أسباب لا يمكن أن يكون شيء منها في كلام بلغاء الناس من أهل هذه اللغة. لأنها خارجة عن قُوى العقول وجماعِ الطبائع، ولا أثر لها بعد في نفس
كل بليغ يعرف ما هي البلاغة وكيف هي، إلا استشعار العجز عنها والوقوف من دونها.
وإنَّما تلك الجهات صفات من نظم القرآن وطريقة تركيبه، فنحن الآن قائلون في سر الإعجاز الذي قامت عليه
هذه الطريقة وانفرد به ذلك النظم؛ وهو سر لا ندعي أننا نكشفه أو نستخلصه أو ننتظم أسبابه،
وإنما جهدنا أن نومئ إليه من ناحية ونعينَ بعض أوصافه من ناحية، فإن هذا القرآن هو ضمير الحياة العربية، وهو من اللغة كالروح الإلهية التي تستقر في مواهب الإنسان فتضمن لآثاره الخلود؛
ثم لا يُدلّ عليها حين التعرف إلا بصفات كل نفس لمواقع تلك الآثار منها، كان هذه الروح تحاول أن تفصِح عن معاني النبوغ الفني في آثارها الخالدة، فلا تجد أقربَ إلى غرضها من أن تهيج الإحساس بها في كل نفس، يجيىء ذلك في البيان عنها، لأن الإحساس إنما هو اللغة النفسية
الكاملة.
والكلام بالطبع يتركب من ثلاثة حروف هي من الأصوات، وكلمات هي من الحروف، وجُمَل هي من الكلم.
وقد رأينا سر الإعجاز في نظم القرآن يتناول هذه كلها بحيث خرجت من
جميعها تلك الطريقة المعجزة التي قامت به؛ فليس لنا بد في صفته من الكلام في ثلائتها جميعاً.
ولا يذهبن عنك أن هذه المذاهب الكلامية التي بُنيت عليها علوم البلاغة ووُضعت لها أمثلة هذه العلوم، إنما هي من وراء ما نعترضه في هذا الباب فليست من غرضنا في جملة ولا تفصيل،
وحسبك فيها كتاب (دلائل الإعجاز) لعبد القاهر الجرجاني، ونحن إنما نبحث في القرآن من جهة ما انفرد به في نفسه على وجه الإعجاز، لا من جهة ما يشركه فيه غيره على أي وجه من الوجوه وأنواعُ البلاغة مستفيضة في كل نظام سوِي وكل تأليف مونق، وكل سبك جيد، وما كان
من الكلام بليغاً فإنه بها صار بليغاً، لمان كانت هي بعدُ في أكثر الكلام إلى تفاوت واختلاف.
ومن أظهر الفروق بين أنواع البلاغة في القرآن، وبين هذه الأنواع في كلام البلغاء، أن نظم القرآن يقتضي كلَّ ما فيه منها اقتضاءاً طبيعياً بحيث يُبنى هو عليها لأنها في أصل تركيبه، ولا تبنى