لذلك بالسبب الذي بيناه، لا يؤخذ من أن غير العرب المحدثين والمولَّدين وسائر من يكونون عرباً في اللسان دون الفطرة، يستطيعون ما لم يأت لأولئك؛ إذ كانوا دونهم، ليس لهم إحساس لغوي

تستبد به روعة الكلام وتصرفه بالكثير عن القليل لتمثل الأصل اللغوي الذي ينبغي أن يكون عليه الوضع والبناء، والذي هو في نفسه حقيقة الإعجاز لأنه سر التركيب والنظم.

فيقال من ذلك إن المولَّدين ومن في حكمهم تتهيأ لهم معارضة السور القصار والآيات القليلة، ويتأتون إلى ذلك

بالصنعة وما ألفوه من إحكام الرصف وإدماج الكلام والتغلغل في طرائق الإنشاء والتوفر على تحسين بهجته وتزيين ديباجته، فإنهم مع هذه الوسائل كلها أبعد من العرب في أسباب العجز،

وأدنى إلى التقصير، وأقربُ إلى الهجنة إذا هم تعاطوه؛ لأن أحدهم إذا قابل كلمات الآية أو السورة أو معانيها، فإنه لا يعدو حالة من حالتين:

إما أن يتعلق على الألفاظ وأوزان الكلام في اللسان ويمضي في مثل نظم القرآن، فينظر في الحرف بين الحرفين ملاءمة واحتباكاً، وفي الكلمة بين الكلمتين تناسباً واطراداً، وفي الجملة إزاء

الجملة وضعاً وتعليقاً، ويمر ذلك حتى يخرج من السورة، وهذه أسوأ الحالين أثراً عليه وأشدها إزراءَ به وأبلغها فصيحة له، لأنها تنادي على كلامه بالصنعة، وتدل في مقاطعه على مواضع الكلام

والفتور، وتومئ في نظامه إلى عثرات الطبع إذ يعمل على السُّخرة ويأخذ بالمحاكاة دون أن يذهب في البيان على سَجيته، ويمضي في أسلوبه الذي يتعلق بمزاجه وأحواله النفسية.

وهذا مع ضيق الكلمات القليلة أن تسع شيئاً من المحسنات أو تستوفي وجهاً من وجوهها، ومع أن المقابلة بين الأصل والمعارضة ستؤدي إلى البحث في سر النظم وطريقة التأليف من الجملة إلى

الكلمة إلى الحرف، وهو مذهب استبد به نظم القرآن - كما ستعرفه - حتى كأنه استوفى من اللغة كل ما يمكن أن يتهيأ منه؛ فإما ألفاظه بأعيانها وأجراس حروفها إذا أريد مثلُ نظمه،

وإما الخروج بالكلام إلى نظم آخر في طريقة غير طريقته؛ وذلك من أعجب ما فيه حتى ما يقضي منه البليغ عجباً.

ومهما أراغ الإنسان وجهَ التخلص إلى معارضته بمثل نظمه فإنه يرى نفسه بإزاء ألفاظه من أين دار وكيف انقلب، ولا تنصرف هذه الألفاظ عنه إلا أن يزيغ طريقة أخرى من الكلام فتتلقاه اللغة بألفاظها وتراكيبها من كل جهة حتى يَسعَها وتسعه.

فهذه هي إحدى الحالتين؛ والأخرى أن يكون من يريد معارضة السورة القصيرة قد ذهب مذهباً لا يتقيد فيه بنظم القرآن ولا بأسلوبه، وإنما همه في المعارضة أن يُجوِّد ويبيِّن اللفظ ويُجزل قسطَه من الصناعة، وأن يتولى الكلام بالروية والنظر حتى يخرج مشرق الوجه مصقول العارض

دقيق الصنعة بالغ التركيب، وهذه حالة تنتهي إلى عكسها، لأن مثل ذلك لا يتأتى من أساليب البلغاء في الألفاظ الموجزة والعبارة القصيرة، إلا أن تكون مثلاً مضروباً، أو حكمةَ مُرسلة، أو

طور بواسطة نورين ميديا © 2015