معلوم أن الإنسان إذا آمن بالله فأولاً يؤمن بوجود الله تعالى، ويرد بذلك على الشيوعيين والفلاسفة الدهريين والطبائعيين، وذلك لأن هؤلاء جميعاً لا يعترفون بخالق بل الأمر عندهم مسند إلى الطبائع، والطبائع هي التي تؤثر في هذا الكون، وفي منظومة لبعض المتأخرين يقول فيها: ولا نصغي لعصري يفوه بما يناقض الشرع أو إياه يعتقد يرى الطبيعة في الأشياء مؤثرة أين الطبيعة يا مخذول إذ وجدوا؟! فأين الطبيعة قبل أن يوجدوا؟ وأين الطبيعة بعدما وجدوا؟ فهؤلاء الطبائعيون لا يؤمنون بوجود الله تعالى، والمسلم الذي يعتقد وجود الله تعالى يعترف بوجوده، وفي ثلاثة الأصول قال الشيخ رحمه الله: (إذا قيل لك: بم عرفت ربك فقل: بآياته ومخلوقاته) ، يعني: عرفته بآياته التي منها الليل والنهار والشمس والقمر، وبمخلوقاته التي منها السموات والأرض وسائر المخلوقات، وهذه المخلوقات دالة على أن لها خالقاً.
ولقد تكلم ابن كثير رحمه الله على أول آية فيها أمر في تفسيره، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} [البقرة:21-22] فقال: هذه ست دلالات نصبها الرب تعالى ليعرفه العباد ويعترفون أنه ربهم الذي خلقهم، أي: أوجدهم وقد كانوا معدومين: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة:28] ، (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) : الآباء والأجداد والأسلاف؛ فإن النعمة على الوالدين نعمة على الأولاد.
(الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً) أي: غطاء وبساطاً ليناً تجلسون وتتقلبون عليه كما تشاؤون، وكما فيها من آيات عظيمة، (وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) وجعلها سقفاً محفوظاً وبناء فوقكم (وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً) لا يقدر الخلق على أن ينزلوه، (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ) جعل هذه الأرض لينة تقبل أن تنبت النبات الذي يكون به غذاؤكم وبه تتم حياتكم.
ثم إنه -رحمه الله- ذكر أقوالاً ونقولاً عن السلف رحمهم الله يستدلون بها على وجود الخالق، فذكر أن أبا حنيفة جاءه قوم من الدهريين وسألوه عن وجود الله -يريدون أن يشككوه في وجود الرب تعالى- فقال لهم: إني منشغل بأمر رهيب.
قالوا: وما هو؟ قال: ذكر لي أن هاهنا سفينة ليس فيها أحد، وأنها تسير وحدها في البحر، وترسي على الساحل، وتحمل نفسها أمتعة حتى تمتلئ، ثم تسير سيراً مستقيماً حتى تصل إلى بلاد أخرى، ثم تنزل ما فيها من الأمتعة مع اختلافها، وتعزل التمر والأكسية وغيرها كل بمفرده، ولا يختلط هذا بهذا، ومع ذلك ليس فيها أحد، وليس فيها من يسيرها ولا من يرسلها.
فقالوا: وهل تصدق بهذا؟ لا يصدق بهذا إلا مجنون! السفينة خشبة، وكيف تحرك الخشبة نفسها؟ وكيف تسير بنفسها؟ وكيف تحمل نفسها وهي خشبة؟ فعند ذلك قال لهم: خصمتم، فأنتم تشاهدون هذا الكون، فهذه النجوم التي تسير من الذي خلقها وأوجدها؟ وهذان النيران -الشمس والقمر- من الذي سيرهما هذا السير المحكم؟ وهؤلاء الخلق من الذي بثهم في هذه الأرض؟ وهذه الأفلاك التي تسير في هذا الكون، وهذه الرياح من يصرفها كما يشاء، وهذه السحب من ينشئها؟! فعند ذلك انقطعوا وتابوا على يديه، فهذه حجة قوية.
وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن هذا السؤال فقال: ها هنا قصر مشيد محكم ليس له منفذ ولو كان رأس الإبرة، ظاهره فضة بيضاء وباطنه ذهب أصفر، محكم البناء، لا يصل إليه تصرف، ولا يصل إليه أدنى تدبير، بقي هذا القصر على ما هو عليه، وبينما هو كذلك إذ انكسر جداره فخرج من وسطه حيوان حي سميع بصير يأكل ويشرب ويتقلب ويتصرف لنفسه فيه جميع الحركات، كيف ولد في وسط هذا القصر؟ يشير بذلك إلى بيض الطير، هذا البيض يخرج ميتاً ليس فيه أدنى علامة للحياة، ومع ذلك يتكون فيها هذا الفرخ، ويتغذى من وسط، ثم بعد ذلك يخرج بإذن الله، فالله تعالى هو الذي كونه حيواناً صغيراً، ثم بعد ذلك أكل ونما إلى أن خرج وهو حيوان كبير يستطيع أن يطير ويتقلب، أليست عناية الله تعالى بهذا الطائر في هذه البيضة تدل على أنه كونه وقدره كما يشاء؟ والآيات والعلامات كثيرة، وقد تكلم ابن القيم رحمه الله في أول كتابه الذي سماه (مفتاح دار السعادة) بنحو أكثر من ستين صفحة كلها في التفكر والتأمل في المخلوقات والاستدلال بها على قدرة الخالق، فجعل ذلك في فصول.
فهو يقول -مثلاً-: فصل: تأمل خلق الإنسان كيف خلق من كذا وركب فيه كذا وكذا، ثم تأمل خلق هذا الحيوان -وأخذ يفصل في الحيوانات-، ثم تأمل خلق الأرض وفيها كذا وكذا، وتأمل خلق كذا.
نحو ستين صفحة كلها في الأدلة، وفي أثناء كلامه يقول: فسل المعطل: من الذي جعل النور في هاتين العينين، هذا النور الذي يمتد ويبصر القريب والبعيد؟ سل المعطل: من الذي فتح هاتين الأذنين وجعلها مدخلاً للصوت حيث إن الصوت يصل إلى الدماغ ويتصور السامع ما يقول من إنسان وحيوان وطير؟ سل المعطل: من الذي ركب هذا الفؤاد وجعل فيه هذا العقل الذي يميز بين الأشياء وفرق به بين الإنسان وبين غيره من الدواب؟ سل المعطل: من الذي ركب لهذا الطير هذه الأجنحة حتى يطير بها ويتصرف بها كما يريد؟ وتكلم في كتاب له آخر اسمه (التبيان) -أكثره من القرآن- عندما أتى على تفسير سورة الذاريات في قوله تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:20-21] فأطال في قوله: (وَفِي أَنفُسِكُمْ) حيث شرح ما في الإنسان من العجائب حتى كأنه أعلم من المشرحين الذين يشرحون المخلوقات، ويصف الإنسان من رأسه إلى إبهامه، يصف كل عضو ويقول: مادته من كذا وكذا.
لا شك أنها آيات بينات عظيمة.