قال المصنف رحمه الله: [السحر واستعماله كفر من فاعله] أي أن الساحر كافر.
والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] ، وذلك لأن اليهود اتهموا سليمان عليه السلام بأنه ساحر، فقالوا: كيف يركب على الريح؟! وكيف تحمله الريح وهو على بساطه فيسير مسيرة شهر في نصف يوم؟ كما قال الله تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12] ، فقالوا: هذا دليل على أنه ساحر، وكيف سخرت له الشياطين وسخرت له الجن؟ كما أخبر الله في قوله تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} [ص:37-38] ، قالوا: فلابد أنه ساحر.
فنزهه الله وبين أنه نبي، ولكن هذه كرامة ومعجزة حيث سخر له الريح وسخر له الشياطين.
(وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) ، الشياطين الذين يعلمون الناس السحر كفروا، وهذا دليل على أن من تعلم منهم فإنه تعلم الكفر، ومن الأدلة على كفره أيضاً في نفس الآية قوله: (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) ، فإذاً كانوا يقولون له: (فَلا تَكْفُرْ) ، أي: فلا تتعلم السحر فإن ذلك كفر، فهذا هو وجه الدلالة.
ومعلوم أن هذا الساحر الذي يتعلم السحر وتخدمه هذه الشياطين لا تخدمه إلا بعدما يخدمها، فالساحر يخدم الشياطين ويخدم مردة الجن، فلأجل ذلك يصيرون طوع إشارته ويصيرون تحت إمرته، فيلابسون من يريد ملابستهم، ويضرون من يريد إضرارهم، فهو يخدمهم ويعبدهم، ولا يطيعونه لأول مرة، بل لابد أنهم يطلبون منه أن يتقرب إليهم، فكثيراً ما يذكر أنهم يذبحون للجن أو للشياطين من دون الله، ويرضون منه أن يذبح لهم -مثلاً- ولو عصفوراً أو دجاجةً أو نحو ذلك باسم الشيطان الفلاني أو نحوه، وربما يدعو الشيطان ويسجد له في حالة كفره وندائه له من دون الله، والنداء لا شك أنه شرك وكفر، فإذا ناداه ودعاه واستجاب له ولبى طلبه عند ذلك يسجد له من دون الله تعالى، فيكون أشرك بدعائه مع الله، وأشرك بالسجود له، وأشرك بالذبح له من دون الله تعالى، وهكذا أيضاً قد يحملونه على أن يترك العبادات حتى يكون من أوليائهم، فيترك الصلوات والنفقات الواجبة عليه والصوم، ويأكل في رمضان أو ما أشبه ذلك، كل ذلك ليتحقق أنه أطاعهم طوعاً ظاهراً.
ومعروف أيضاً أن الشياطين يألفون النجاسات والقذارات وما أشبهها، فلذلك يطلبون منه إذا أراد أن يستخدمهم أن يستعمل النجاسات، فربما يلطخ بدنه بالدماء أو بالأبوال أو بالعذرة أو ما أشبه ذلك، ولأجل ذلك أمر الإنسان إذا دخل الخلاء أن يستعيذ بالله من شرورهم ويقول: (أعوذ بالله من الخبث والخبائث) أي: ذكران الشياطين وإناثهم.
وأمر النبي عليه السلام بالتستر إذا دخل الإنسان الخلاء، قال: (إن الشياطين تلعب بمقاعد بني آدم) ، وأخبر: (إن هذه الحشوش محتضرة) يعني الأماكن التي يتخلى فيها.
فإذا خدمهم هذا الخادم وهو الساحر بأن تلبس بهذه النجاسات وتلطخ بها عند ذلك عرفوا أنه صار طوع إشارتهم فأصبح خادماً لهم وأصبحوا خداماً له مسخرين، ولا يستطيعون حينها أن يتخلوا عن أمر يشير به إليهم، ويستطيع أنه يسخر -مثلاً- مائة عفريت أو مئات من العفاريت والجن، فيقول: يا هذا! تسلط على فلان أو على فلانة، لابس فلاناً.
فإذا لابسه، فقدر أنه مات سلط آخر وقال: اذهب فحل محله.
ونحو ذلك، فما خدموه إلا لأنه خدمهم، ولأنه كفر بالله وآمن بهم، ولأجل ذلك نعتقد أنه كافر.