الرزق من الله تعالى، فهو الذي يسر أسبابه وجعلها في متناول الأيدي، وهو الذي سهلها ويسرها ولو شاء لما قدر العباد عليها، ولكن العبد أعطاه الله تعالى قوة وفكراً وعقلاً وذهناً، ثم أمره بأن يستعمل هذه القوة حتى يتكسب بها، ونهاه عن الإخلاد إلى الأرض، وأمره بأن يطلب المعيشة والرزق ويحرص على الرزق الحلال، فإذا أصابه فليعتقد أنه من الله تعالى، فهو الذي يسر أسباب هذا الرزق وسهلها.
فالرزق من الله تعالى، والحلال والحرام كله رزق، ولكن معلوم أنه إذا اكتسب حراماً متعمداً ولو كان بتقدير من الله تعالى فإنه يعاقب على ذلك، وإذا تغذى بهذا الرزق الحرام فإنه يعاقب على ذلك (فكل لحم نبت على سحت فالنار أولى به) كما ورد، ولو كان مقدراً، فلو قال الإنسان: والله قدر أني آكل الربا، الله قدر أني أتغذى بهذا السحت أو بهذه السرقة أو بهذا المال المختلس أو ما أشبه ذلك نقول: نعم.
هو تقدير من الله تعالى، ولكن الله تعالى أعطاك قوة وقدرة تتمكن بها من أن تكتسب الحلال، وبين لك الحلال وفصل ما حرمه وفصل ما أحله، فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:29] يعني: كل ما في الأرض خلقه لكم.
وقال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] ، فصل لكم المحرمات وبينها فما بقي فإنه حلال.
فعلينا أن نعتقد أن الرزق من الله تعالى، ومن أسماء الله الرزاق، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] يرزق عباده، ويقول الله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] ، ويقول الله تعالى بعدما أمر عباده ببعض الأوامر: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] ، فالله هو الرازق وحده، ولكن العباد قد يكون على أيديهم أو بواسطتهم شيء من الرزق يسخره الله تعالى، فيسخر هذا لهذا حتى يعطيه ويمد له ما يقتات به وما يتغذى به، فيقال: هذا رزق من فلان.
أو تقول: هذا رزق رزقنيه الله بواسطة فلان.
فالله تعالى خير الرزاقين، فهو الذي يرزق وحده، وهو الذي يسخر قلوب هؤلاء لأن يعطفوا على الفقراء فيرزقوهم ويعطوهم ويكسوهم ويتصدقوا عليهم، فالرزق أصلاً من الله تعالى وحده، ولكن يجعله على أيدي بعض الناس ويجعلهم سبباً فيه.
ولهذا ذكروا عن بعض الصالحين أنه اشتكى إليه أحد تلامذته الفقر والجوع، فكتب له أبياتاً وقال: اعرضها على أول من تجده.
البيت الأول يقول فيه: أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر أنا جائع أنا حاسر أنا عاري ثم قال: هي ستة وأنا الضمين بنصفها فكن الضمين بنصفها يا باري فلما خرج بهذه الورقة رأى فارساً مقبلاً فمدها إليه، فبمجرد ما قرأها استتبعه وعطف الله قلبه عليه وأعطاه ما يقتات به، ولا شك أن هذا وسيلة من الوسائل، أن الإنسان يطلب الرزق ولو بواسطة بعض الخلق الذين جعل الله تعالى على أيديهم شيئاً من المال، وليس في ذلك غضاضة.
وعلى كل حال فالرزق أصله من الله تعالى، وهو المسبب له، سواءً فعل العبد الأسباب فنجحت أو فعلها ولم تنجح، فعليه أن يفعل الأسباب، ثم بعد ذلك يثق بأن الله تعالى هو المسبب.
قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة:63-65] ، فلو شاء الله تعالى لجعل هذه الزروع حطاماً، فقد أخبر بأنهم يحرثون الأرض وينثرون فيها هذه البذور، ثم يسقونه بالماء، ثم ينبت، ثم يصير زرعاً، ثم يحصدونه ويجمعون منه هذا القمح وهذه الأقوات، فلو شاء الله تعالى لما أنبتت هذه الأرض، ولو شاء لسلط عليه ريحاً أو مرضاً أو ظمأً فأصبح حطاماً، {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} .
إذاً فالأصل أن الله تعالى هو الذي يرزق من يشاء بغير حساب، فنؤمن بأن الله يرزق كل حي مخلوق رزق الغذاء الذي يقتات به، وهو مع ذلك مأمور بأن يبذل السبب، ويطلب الرزق، فيبذل الأسباب، فإذا بذلها فالله تعالى يتكفل له بالرزق.