بدعة الاعتزال والأشعرية

ظهر مذهب الاعتزال في القرن الرابع وتمكن، ثم ظهر عالم في القرن الثالث يقال له: عبد الله بن سعيد بن كلاب، وكان شديد الجدل قوي الحجة، حتى شبهوه بالكلاب، وهي الحديدة التي يستعملها الحداد عندما يلقي الحديدة في النار حتى تحمر وتلين فيمسكها بحديدة لها أطراف يقال لها: الكلاب فسموه بذلك لقوة جدله.

ثم إن أبا الحسن الأشعري وافقه على معتقده، وكان أبو الحسن الأشعري في أول أمره معتزلياً تتلمذ على أبي علي الجبائي وعلى ابنه وهما من المعتزلة، وأبي الهذيل العلاف وهو من علماء المعتزلة، والجاحظ وهو معتزلي، فلما تتلمذ عليهم انتحل نحلتهم وأخذ الاعتزال، وبقي على ذلك في أول عمره، ثم إنه اقترن بـ ابن كلاب فتتلمذ عليه وقرأ عليه، ثم سار على عقيدته وبقي عليها نحواً من أربعين سنة على ذلك، وألف كتباً كثيرة على عقيدة ابن كلاب، ونسبت بعد ذلك للأشعري، وصار أتباعه عليها يسمون الأشاعرة أو الأشعرية.

ثم إن الأشعري في آخر حياته رجع لما قرأ كتب أهل السنة وكتب أهل الحديث، فاهتدى ورجع عن هذه العقيدة إلى عقيدة أهل الحديث وألف على ذلك رسالته المطبوعة باسم (الإبانة في أصول الديانة) ، وألف كتابه الذي سماه (مقالات الإسلاميين) ذكر فيه مقالات المعتزلة والكلابية والوعيدية والجبرية والمرجئة ونحوهم، وبالغ في ذكر مقالات الجهمية والمعتزلة وما ينتقد عليهم، ثم بعدما انتهى من هذه المقالات ذكر مقال أهل السنة، وسرد عقيدتهم سرداً محكماً، وبينها بياناً وافياً كافياً، ولما انتهى منها قال: وبكل ما قالوه نقول، وبكل ما ذهبوا إليه نذهب.

فعرف بذلك أن الأشعري أصبح من أهل السنة في آخر أمره، وتجد هذا الفصل الذي ذكره قد نقله ابن القيم في أول كتابه (حادي الأرواح) وفي آخر الكتاب نفسه أيضاً، وكأنه يقول: هذا الكتاب الذي كتبته في ذكر الجنة أهله الذين يستحقونه هم أهل هذه العقيدة الذين اعتقدوها.

ونقل منها شيئاً كثيراً في كتابه الذي سماه (اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية) ، ونقل منه أيضاً شيخه ابن تيمية رحمه الله تعالى في (الحموية) ، ونقله تلميذه الإمام الذهبي في كتاب (العلو) ، مما يدل على أنهم تيقنوا أن الأشعري رحمه الله كان على هذه العقيدة التي هي عقيدة السلف الصالح.

ولكن مع الأسف فإن أهل زمانه وبعدهم إلى يومنا هذا تمسكوا بعقيدته التي في وسط حياته، والتي ألف عليها كتبه، والتي هي عقيدة ابن كلاب، تمسكوا بها، وسموا أنفسهم أشعرية وأشاعرة، واشتهروا بهذه النسبة، ولم يزالوا على ذلك ينتحلون هذه العقيدة، فهم يقولون: نحن في الفروع شوافع وفي المعتقد أشاعرة.

هكذا يقولون، ولم لا تتبعون الشافعية في الأمرين: العقيدة والمذهب؟ وكذلك يقول الحنفية: نحن حنفية في الفروع وأشعرية في الأصول.

فمذهب الأشاعرة هو الذي انتشر انتشاراً كثيراً، وما يزال ينتحله كثيرون ويفضلونه على غيره، ويناضلون ويجادلون في نصره، وينصرونه بكل ما يستطيعون، وفيه ألفوا كتباً كثيرة، فمن كتب المتقدمين كتاب (الإرشاد) للإمام الجويني الذي هو إمام الحرمين فيما يتعلق بهذه العقيدة، ولكنه شحنه بأصول المتكلمين الذين يتكلمون في العقائد ويجعلون تلك البراهين أو القواعد التي يقعدونها أدلة على ما يذهبون إليه، فهذه عقيدتهم، وكتاب الإرشاد مطبوع، ومنهم الرازي المشهور الذي يسمى الفخر الرازي صاحب التفسير الكبير، أبو عبد الله بن عمر الرازي، ألف كتاباً سماه (تأسيس التقديس) ، وجعله في عقيدة الأشاعرة، وأهداه إلى سلطان ذلك الزمان، وانتشر هذا الكتاب وهو ما يزال مطبوعاً منتشراً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015