ذكر ابن القيم أن كثيراً من الفلاسفة الذين لا يؤمنون بالغيب أنكروا عذاب القبر، وادعوا أنه كذب، وقالوا: إننا بحثنا عن الميت بعد دفنه بثلاث فوجدناه على هيئته، ووضعنا على صدره الزئبق الذي هو أخف شيء حركةً فوجدناه لم يتغير، فكيف تقولون: إنه يجلس، وإنه يخاطب ويضرب بمرزبة من حديد، وإنه يصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلان؟ أين هذا ونحن لم نجد فيه أي تغير عن حالته التي مات عليها؟ فأجابهم: إنكم في عالم والموتى في عالم آخر، فإن أهل الدنيا في عالم الدنيا والأموات في عالم البرزخ، وأهل الدار الآخرة في عالم الآخرة ولكل منهما حكم، فأهل الدنيا معروف أنهم يحس بعضهم ببعض وينظر بعضهم إلى بعض، ونسمع كلام أحدنا ونرى شخصه ونلمسه ونعرف شخصيته، وأما الذي من أهل البرزخ فإن روحه قد خرجت من بدنه، ونحن لا نعلم ماهية تلك الروح ولا كيفيتها، فالعذاب الذي تلاقيه لا ندري ما كيفيته، لكنا نتحقق أن الروح هي التي تتعذب وتتألم، أما الجسد الذي هو هذا اللحم والعظم ونحوه فإنه بعد الموت يفنى ويصير تراباً كما هو مشاهد، وكما ذكر الله ذلك عن الكفار في قولهم: {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الإسراء:49] ، ينقلب تراباً كما في قوله: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه:55] أي: نعيدكم فيها إلى أن تصيروا تراباً.
فالأحكام في البرزخ على هذه الروح، والروح بعد خروجها من الجسد تبقى إما منعمة وإما معذبة، ونحن لا نتصور ماهيتها، إن الأرواح التي تعمر هذه الأجساد عجز الخلق عن أن يتصوروا ماهيتها وأن يدركوا مما هي وأن يصلوا إلى تكييفها، فلذلك اقتصروا على قول الله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] ، اقتصروا على هذا فقالوا: هذه الروح نسلم أنها مخلوقة تبقى بعد خروجها من البدن، وإما أن تنعم وإما أن تعذب، وأن الحساب والعذاب في البرزخ على الأرواح.
والله تعالى قادر على أن يوصل الألم إلى الأجساد ولو كانت رماداً في التراب، ولكن العذاب الحقيقي والنعيم الحقيقي على هذه الروح مشاهد.
فالجن خلق ولكنا لا نراهم؛ لأنهم أروح ليس لهم أجساد، وإن كان لهم قدرة على أن يتشكلوا ويظهروا بمظاهر جسدية، ولكن الأصل أنهم أرواح، ولذلك لا نراهم، ولهم قدرة على ملابسة الإنس وأن يخالطوا الإنسي وينتشروا في جسده ويلاطفوه حتى تغلب روح الجني على روح الإنسي، فلذلك الذي معه مس من الجن تغلب روح الجني عليه، وذكر شيخ الإسلام أن الذي يصاب بهذا الجنون تتغلب عليه تلك الروح الجنية، وأنه إذا ضرب فإن الضرب يقع على الجني، ولهذا كان رحمه الله إذا جيء بمن هو مصروع من الجن يضربه ضرباً شديداً، فيصيح ذلك الجني ويتألم، وإذا خرج سأل الإنسي: هل أحسست بضرب؟ فيقول: ما أحسست بشيء ولا شعرت أنني ضربت.
لأن الضرب يقع على ذلك الجني.
فنقول: هذه الروح التي فيك -أيها الإنسان- هي التي يحيا بها الجسد، فإذا نزعت من الجسد بقي الجسد جثة ليس فيه حياة، لا يتألم ولا يحس بضرب ولا بغيره، أين ذهبت تلك الروح؟ الله أعلم، تذهب إلى عالم الأرواح، يصيبها عذاب أو نعيم، وتلقى ما تلاقيه إن كانت سعيدة من السرور، وتلقى ما تلاقيه إن كانت شقية من العذاب والآلام، فهي في عالم ونحن في عالم.
وقد اختلفوا: أين تكون أرواح المؤمنين وأرواح الكافرين؟ فذكر بعضهم أن أرواح المؤمنين في بئر زمزم -وقيل: إنها في السماء- وأن أرواح الكفار في بئر بحضرموت، ولكن هذا قول من الأقوال، والله تعالى قد ذكر شيئاً من ذلك في قوله: {إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] ، قيل: المراد به أرواحهم، {وإِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7] قيل: إنه أسفل سافلين.
فالله أعلم بمقر هذه الأرواح، ولكن هي التي في هذه الدنيا تتألم وتتعذب.
فلا يلتفت إلى أقوال الفلاسفة الذين يقولون: إن الجسد لم يتغير، وإنا وجدناه على هيئته عندما وضعناه، وإنه لم يتحرك بأدنى حركة.
نقول: صدقتم، فالجسد لا يتغير؛ لأنه جثة، ولكن الحساب والعقاب على الروح، وما ذكر من إجلاسه وسؤاله إنما يتوجه على الروح.